فصائل المقاومة الفلسطينية ما زالت قادرة على التصدّي للعدوان، وهي تعمل بكل الإمكانيات المتاحة على عدم تمكينه من تحقيق أهدافه من جهة، وكسر نسق العملية العسكرية من جهة أخرى.
بعد أن تجاوزنا حاجز الأسبوعين على بدء العملية العسكرية العدوانية الواسعة في شمال قطاع غزة، والتي سقط خلالها حتى كتابة هذا السطور أكثر من خمسمئة شهيد من المدنيين العزّل، بالإضافة إلى مئات من الجرحى، إلى جانب دمار كبير وهائل في المنازل والشوارع ومراكز الإيواء، كذلك استهداف المنشآت الصحية والخدمية، وفرض حصار مطبق على عشرات الآلاف من المواطنين الذين رفضوا أوامر الإخلاء وتحديداً في معسكر جباليا، ومناطق بيت لاهيا وما يجاورهما، إلا أنه لم تتضح حتى الآن بصورة قطعية النوايا الإسرائيلية، أو الأهداف التي يسعى الاحتلال إلى تحقيقها من وراء هذه العملية، التي بدت مفاجئة وغير مُتوقّعة بالنسبة إلى الكثيرين.
وفي حقيقة الأمر فإن هناك الكثير من المتغيّرات التي تجري الآن في تلك المنطقة الحيوية والحسّاسة، والتي تُعدّ خط الصد الأول في مواجهة “دولة” الاحتلال ومشاريعها التوسعية، والتي تم الحديث عنها مؤخراً في وسائل الإعلام الإسرائيلية، إذ إنه وعلى خلاف الهجومين السابقين في كانون الأول/ديسمبر من العام الماضي، وأيار/مايو من هذا العام تمّ فرض حصار مطبق على هذه المنطقة، وتمّ منع خروج السكّان الراغبين في البحث عن مكان آمن في مدينة غزة هرباً من حملات القصف الجوي والمدفعي المكثّف.
هذا إلى جانب إقامة حواجز تفتيش إحداها على شارع صلاح الدين بالقرب من موقع الإدارة المدنية على شارع صلاح الدين شرقاً، والثاني قرب دوّار “التوام” في المنطقة الشمالية الغربية على شارع الرشيد، ومن خلال هذين الحاجزين مُنع خروج من كان يرغب من السكّان وهم قلائل، وتمّت إعادتهم إلى داخل المناطق الواقعة في قلب المخيم، على الرغم من أن “جيش” الاحتلال هو الذي طالبهم في بداية العملية بالمغادرة إلى جنوب القطاع.
أمر آخر ملفت وهو أن عدد القوات والآليات الإسرائيلية التي شاركت في بداية هذه العملية كانت أقلّ بكثير من العمليتين السابقتين، حيث أشارت مصادر محلية من عين المكان إلى أن هناك عشرات الدبابات وناقلات الجند فقط موجودة في عدد من المحاور الشرقية والغربية، وهناك أخرى تقدّمت أول أمس باتجاه مقبرة بيت لاهيا في ظلّ غطاء ناري جوي ومدفعي كثيف، أما معظم المحور الجنوبي فتتمّ السيطرة عليه بالنيران من الجو على وجه الخصوص من خلال طائرات “كواد كابتر” المسيّرة، وهذا الأمر يبدو منسجماً مع الصور التي نشرها “جيش” الاحتلال في بداية الهجوم، والذي أظهر محدودية الآليات التي عبرت الحدود سواء من موقع النصب التذكاري أقصى شمال شرق القطاع، أو من مستعمرة زكيم الواقعة في أقصى شمال غرب القطاع من الناحية الأخرى للحدود.
خلال اليومين الأخيرين حصل تغيّر لافت في سير العملية العسكرية، ولا سيّما بعد الإعلان عن انضمام لواء جفعاتي لها، والبدء بتعميق عملية التوغّل إلى عمق المخيم من جهة، وإلى محاصرة المستشفيات ومراكز الإيواء من جهة أخرى، وهذا التطوّر فتح الباب على مصراعيه لظهور مؤشرات جدّية حول ما يجري في المنطقة الشمالية من القطاع، إذ تمّ تسليط الضوء مجدداً على إمكانية قيام “جيش” الاحتلال بتنفيذ ما يطلق عليه “خطة الجنرالات” على الرغم من النفي الإسرائيلي الرسمي لذلك.
إلا أن العديد من الوقائع تشير بوضوح إلى توجّه العدو وفي ظلّ إخفاقه في تحقيق أهداف الحرب المعلنة طوال عام كامل إلى الذهاب باتجاه تنفيذ هذا الخطة بالفعل، ضمن ما تتمّ الإشارة إليه في بعض مراكز البحث الإسرائيلية بأنه تدشين لمرحلة رابعة من الحرب، وهي ترتكز في الأساس على القيام بعمليات تهجير واسعة لأكثر من سبعمئة ألف فلسطيني ما زالوا يعيشون في المنطقة الشمالية من القطاع، وإن ما يجري في محافظة الشمال حالياً والمكوّنة من مخيم جباليا وجباليا البلد وبيت لاهيا وبيت حانون هي المرحلة الأولى فقط، وستتبعها في حال نجاحها مراحل أخرى.
في هذا السياق من المهم الإشارة هنا إلى أنه في الأسابيع الأخيرة استمرت المعارك في محافظات القطاع كافة وإن بنسب متفاوتة بين محافظة وأخرى، حيث تركّزت في ثلاث مناطق رئيسية، الأولى وهي الأكثر سخونة في مخيم جباليا شمال القطاع، وبعض المناطق المحاذية له من الجهة الشمالية الغربية تحديداً، والثانية في رفح التي تشارف المعارك فيها على دخول شهرها السادس، وهذه العملية انتهت بحسب الإعلام العبري” إكلينيكيا”.
بالإضافة إلى ما يجرى من معارك متقطّعة في الأطراف الجنوبية من مدينة غزة والممتدة من حي الزيتون شرقاً، وصولاً إلى منطقتي تل الهوى والشيخ عجلين غرباً، والتي تحاذي جميعها محور نتساريم من الجهة الشمالية، حيث تمّ توسيع المنطقة العازلة الفاصلة بين هذه المناطق وبين هذا المحور لتصل إلى عمق يزيد عن الثلاثة كيلومترات ونصف الكيلومتر، وهو الأمر نفسه الذي يتم على الجهة الجنوبية منه باتجاه مناطق جحر الديك شرقاً، مروراً بالأطراف الشمالية لمخيم البريج، وصولاً إلى المخيم الجديد شمال مخيم النصيرات وسط القطاع.
وبحسب مصادر مطّلعة فإن نقل القوات الإسرائيلية إلى منطقة شمال القطاع لم يجرِ كما ذُكر في وسائل إعلام العدو قبل العملية بعدة أيام، إذ إنه وبحسب تلك المصادر فقد تمّ وصول هذه القوات المنضوية تحت قيادة الفرقة (162) المدرعة “هفلدا”، والفرقة (252)، المدرعة “سيناء”، إلى موقع زكيم العسكري المحاذي لمنطقة شمال القطاع، وذلك في أواسط شهر أيلول/سبتمبر الماضي، أي قبل نحو ثلاثة أسابيع من بدء العملية، وهذا يشير إلى أن التحضيرات اللوجستية وتجهيز القوات ووضع الخطط القتالية قد تمّ منذ مدة طويلة، ولم يكن وليد اللحظة، أو نتيجة معلومات استخبارية عاجلة عن نشاط المقاومة هناك.
على جانب آخر تشير المصادر نفسها إلى أنّ آلية الانتشار التكتيكي لقوات العدو تؤكد الرغبة في القيام بعملية تهجير قسري للسكّان، وهذا الأمر يؤكده حجم الاستهدافات، والدمار الهائل الذي أحدثته عمليات التفجير بالبراميل الناسفة، إضافة إلى الروبوتات المفخّخة، وهذا يُظهر رغبة الاحتلال في تدمير جزء كبير من المناطق العمرانية التي ما زالت قائمة، وهو ما قد يدفع السكّان إلى الخروج من المنطقة في مرحلة مقبلة ولا سيّما بعد أن تطول فترة الحصار والتجويع.
على الجانب الآخر نجد أن فصائل المقاومة الفلسطينية ما زالت قادرة على التصدّي للعدوان، وهي تعمل بكل الإمكانيات المتاحة على عدم تمكينه من تحقيق أهدافه من جهة، وكسر نسق العملية العسكرية من جهة أخرى، وذلك من خلال الخطط الاستباقية التي أعدّتها، ومن خلال توجيه ضربات قاسية ومؤثّرة لقوات العدو في محاور القتال المختلفة.
ويبدو أن المقاومة كان لديها تصوّر مسبق حول هذه العملية وحول أهدافها، وهي كما يبدو من الأداء القتالي الذي تقوم به، والذي يتميّز بالمرونة التكتيكية العالية، بالإضافة إلى الكمائن النوعية التي أسقطت عدداً كبيراً من الجنود والضباط قتلى وجرحى، قد أعدّت نفسها جيداً لهذا اليوم، على الرغم من حجم الاستهدافات غير المسبوقة التي يقوم بها العدو، والتي تستهدف في الأساس البنى التحتية، والبيوت التي ما زالت صالحة للسكن، إلى جانب وهو الأهم قتل أكبر عدد ممكن من السكّان المدنيين.
حتى الآن وعلى الرغم من كل ذلك فقد فشل “جيش” الاحتلال الصهيوني في دفع نحو ربع مليون فلسطيني يعيشون في شمال القطاع إلى الرحيل سواء باتجاه مدينة غزة، أو إلى مناطق الوسط والجنوب، وهذا الأمر يرجع إلى عدة أسباب، من بينها أن هؤلاء المواطنين لم ينزحوا منذ بداية الحرب من منازلهم رغم ما تعرّضوا له من استهدافات، وما زالوا يتشبّثون بأرضهم وبيوتهم حتى لو كانت مدمّرة، إلى جانب إدراكهم أن لا مكان آمناً في قطاع غزة، وأنّ الموت فوق ركام منازلهم أفضل ألف مرة من الموت في خيام النزوح، والتي لها نصيب وافر هي الأخرى من عمليات القصف والإحراق، كما حدث في دير البلح وخان يونس والنصيرات أكثر من مرة.
يضاف إلى ذلك أنهم يؤمنون بأن المقاومين الذين بين ظهرانيهم قادرون على إفشال خطط الاحتلال والتصدّي لها، وأن هؤلاء المقاومين الذين هم أبنائهم وإخوانهم بحاجة إلى حاضنة شعبية تلتف من حولهم، وتقدّم لهم ما يحتاجونه في هذه الظروف الصعبة والقاسية، وهم على استعداد كامل للقيام بهذا الدور على الرغم من كل التضحيات التي يقدّمونها.
على الجانب الإسرائيلي يسود اعتقاد أنه في حال لم ينجح “الجيش” في دفع أهالي شمال قطاع غزة للنزوح إلى جنوبه، فإن أهمية محور نتساريم ستتراجع بشدّة، وأنّ الدفاع عنه يمكن أن يتحوّل إلى تحدٍ كبير، خصوصاً وأنه يتعرّض للاستهداف بشكل شبه يومي من جهة الشمال، كما هو الحال من جهته الجنوبية على الرغم من توسيع مساحة الأمان على جانبيه لتصل إلى نحو سبعة كيلومترات. بالإضافة إلى كل ذلك فإنه يصبح من دون قيمة استراتيجية، ويفقد جزءاً مهماً من الدور المنوط به، وفي حال فشلت خطة الاحتلال في شمال القطاع، وتمكّن المواطنون والمقاومة هناك من كسر آلة الدمار والإجرام وإفشال مخطّطاته فإنه يصبح بالإمكان ولو بعد حين فكفكة هذا المحور لعدم الحاجة إليه.
أخيراً نحن نعتقد أن هذا السيناريو الجهنمي لن ينجح في مساعيه على الرغم من الزخم الكبير الذي يتمتّع به حالياً، وهو على الرغم من حجم الجرائم التي تُرتكب لن يدفع المرابطين والصامدين في شمال القطاع إلى مغادرته، حتى ولو ماتوا جوعاً أو بفعل الصواريخ والقذائف، فهذا الشعب الذي قدّم كل شيء في هذه الملحمة البطولية لن ينكسر ولن يستسلم، وسيبقى كما عهدناه شهماً وكريماً ومعطاء، لا ترهبه مجازر الاحتلال، ولا يكسر عزيمته تنكّر شعوب الأمة الذين ماتت فيهم النخوة والرجولة، إلا بقية الشرف في ساحات محور المقاومة، لأنه ببساطة حدّد هدفه، واختار طريقه، ولديه كامل الثقة في إمكانياته على الرغم من تواضعها، وينظر إلى ذلك اليوم الذي يندحر فيه الاحتلال عن كامل أرضه من دون رجعة، حينها سيحتفل بالنصر، وستكتحل عيونه بعودة الأسرى والمسرى، ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا.
الميادين نت