المزايدون

تنطبق الحوارية التي سنوردها في هذه السطورعلى كل المزايدين من إخوان المنافقين والمنتفعين، والذين إذا أمروا بالصلاة، تنسّكوا وإذا طلب منهم الاحترام، خنعوا وإذا فرض عليهم الصيام، ألصقوا رمضان بشوّال:

الأول: هل تشهد معي زورا بأنّ فلانا اقترض منّي مبلغا من المال، ولك مني ربعه إن حصلت عليه.

الثاني: اللعنة..ألم يسدّد المبلغ إلى الآن؟ كيف تأخّر عليك كل هذا الوقت.

يذكّرني هؤلاء بحادثة بناء الجامع أثناء حكم الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، والذي طلب من كل واحد أن يأتي بلبنة واحدة، في رمزيّة لوحدة الصف وتجديد البيعة والموالاة، فجاءه رجل وهو يكابد في حمل لبنتين كبيرتين على ظهره، ودون أن يجبر على ذلك، سأله عبدالملك عن أصله ومضارب قبيلته، فوجده ينتمي لأشرس خصومه ومحاربيه، عندها قال له قولته الشهيرة: “غلاة أنتم في الطاعة، غلاة أنتم في الشقاق”..

هكذا تحب هذه النوعية من البشر أن تفنّد سوء الظنّ بالركون إلى المبالغة، وتقطع الشكّ بالكذب والنفاق، ولأنّ ليس للسقوط قاع، فقد عمد أحد جهابذة الصحافة في عهد النظام التونسي السابق، إلى تخصيص افتتاحية جريدته للحديث عن مبادرة الرئيس في التبرّع بأعضائه بعد وفاته، وهي مسألة حميدة بلا شك، ولكن لا تفرّد فيها، فهي شبه مفروضة وفق القوانين والنظم التونسية. لم تنته الحكاية عند هذا الحد، فلقد ظهر من يزايد على مزايدة هذا الصحفي ويحبسه في “خانة اليك” كما يقال في لعبة النرد، وكتب يرد عليه في صحيفة أخرى، متهما إياه بكراهية الرئيس وتمنياته له بالموت في عقله الباطن، بدليل أنه يهلّل لمبادرة الرئيس في التبرّع بأعضائه بعد وفاته..فلا عاش من سيرث كلية السيد الرئيس من بعده.

المنافقون من المنتفعين ـ مدّاحين كانوا أم هجّائين ـ قوم بارعون في غلق الطريق على منافسيهم، ونجوم لا يشق لهم غبار في قاعات المزاد، لكنّ رياح المفاجآت تجري بما لا تشتهي سفنهم أحيانا، والأمثلة كثيرة في التاريخ القديم كالذي نال جزاه حين شبّه الخليفة بالتيس في مقارعة الخطوب،وكذلك في التاريخ الحديث، كالشاعر الذي شبّه زعيما ببغل يجرّ عربة اسمها الشعب، أو ذاك الذي يحترف المراثي وأطنب مرّة في ذكر مآثر الفقيد وبطولاته، ثم اكتشف أنه في مأتم لعجوز شرّيرة شمطاء فانهال عليه جمهور المعزّين والورثة بالرشق بالأحذية.

بين الشعر وغلاة المنافقين، خيط أرقّ من حدّ السيف، حتى أنّ أحدهم قد شبّه شاعرا بالكذّاب الصادق، وهذا الحد الرقيق، اسمه الانتفاع، فالكذب بلا غاية ولا سبب، يصبح خيالا مسفوحا في أسوء توصيفاته، لكنّ دناءة الهدف تجعل من المبالغة فعلا كريها، فلولا العرض الذي قدّمه الوغد الأول في طلب شهادة الزور، لما أبدى الوغد الثاني استغرابه من التأخر في تسديد الدين..وقيل إنّ استدانة المبلغ حقيقيّة، لكنّ الأول أراد أن يختبر أخلاق الثاني.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى