“المسألة الشرقية” الجديدة في المشرق العربي الدولة الوطنية أولاً (فريد الخازن)

 

فريد الخازن

لاكثر من عقدين ظل العالم العربي بمنأى عن التحولات الكبرى التي رافقت انتهاء الحرب الباردة وما نتج منها من سقوط أنظمة شمولية لا سيما في أوروبا الشرقية. هكذا بقي العالم العربي على جموده وبات التوريث حالة طبيعية في تداول السلطة، إلى ان انطلقت الانتفاضات الشعبية في تونس ومصر، فتهاوى النظامان بالضربة الشعبية القاضية. وفي ليبيا سقط النظام والدولة معا وعاد المجتمع إلى انقساماته. وفي اليمن نزاع عمره من عمر الدولة، وصراع على السلطة تتداخل فيه المصالح الإقليمية والدولية. وأيضا في البحرين انتفاضة شعبية على خط الصدع المذهبي، تم ضبطها بتدخل عسكري خليجي غير مسبوق. اما في سوريا فأتى التغيير في آخر السلسلة وتحولت البلاد إلى ساحة لحرب مفتوحة، ولم تبق جهة إقليمية ودولية فاعلة الا ودخلت طرفا في النزاع.
سوريا هي الدولة الوحيدة في المشرق العربي التي أنتج فيها الربيع العربي نزاعا مسلحا بالغ التعقيد. وقبل الأزمة السورية كان سقوط النظام والدولة في العراق مدويا بفعل الاجتياح العسكري. في العراق حرب مدمرة دامت سبع سنوات انتهت بانسحاب الجيش الأميركي وبإقامة نظام سياسي حافظ على وحدة الدولة، لكن في إطار فدرالي يعكس انقسام المجتمع. وفي سوريا حرب مشتعلة لا تسوية سياسية لها في المدى المنظور، وما انكسر إلى الآن على مستوى الدولة والمجتمع لن يعود إلى سابق عهده.
في المشرق العربي التغيير الجذري الذي شهدته دولتا العراق وسوريا يطرح مسائل كيانية، خلافا لمسائل السلطة والنفوذ التي ارتبطت بحالات التغيير في دول اخرى. الواقع ان قضايا العرب الكبرى انطلقت من المشرق العربي، وكذلك الحركات القومية بتلاوينها المختلفة، وفي مقدمها القومية العربية، إضافة إلى النزاع العربي – الإسرائيلي، وهو الأطول والأكثر تعقيدا بين النزاعات الإقليمية، منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.
الا ان الخصوصية الاخرى تكمن في ما يختزنه المشرق العربي من مسائل عالقة، مردها إلى ان نشوء الدول الحديثة في مطلع عشرينيات القرن المنصرم، كان نتاج "المسألة الشرقية"، التي انطلقت في مطلع القرن التاسع عشر، وأثمرت كيانات دول، رسمت حدودها بريطانيا وفرنسا بعد انهيار السلطنة العثمانية. اتفاقية سايكس – بيكو في العام 1916 وضعت الاطار العام لمناطق النفوذ، تبعها ترسيم تفصيلي لحدود الدول بعد انتهاء الحرب. الا انها كانت ايضا سياسات تعكس طموحات أصحاب النفوذ من القادة العرب، لا سيما الهاشميين، في تقاسم التركة الإمبراطورية. فإذا كانت الدول التي نشأت في تلك المرحلة كيانات مصطنعة، فرضتها مصالح الدول الكبرى، فهل لا تزال مصطنعة اليوم بعد ما يزيد على تسعة عقود على نشوئها؟ وإذا كان بالإمكان التطلع إلى ابعد من حدود الدول القائمة في زمن الانتداب بهدف إقامة الوحدة العربية أو سوريا الكبرى، ولاحقا بعد الاستقلال في زمن الناصرية و«حزب البعث»، فإن أولى مداميك الدولة الوطنية تثبتت مع فشل تجربة الجمهورية العربية المتحدة بين العامين 1961 – 1958، ومع انقسام حزب «البعث» على اساس قطري بعد وصوله إلى السلطة في سوريا والعراق في العام 1963.
وبعد انهيار الدولة المركزية في العراق في العام 2003 وقيام نظام فدرالي متعثر، ومع النزاع المتواصل في سوريا، ثمة تساؤلات حول مصير الدولة الوطنية. هل نحن أمام مشروع سايكس – بيكو جديد، وهل ثمة عودة إلى دويلات، طائفية كانت ام مذهبية ام إتنية؟ ويزداد المشهد تعقيدا في ظل وقائع لم يختبرها العالم العربي من قبل، نشير إلى أهمها:
÷ أولا، الانقسام المذهبي العميق بلغ حدودا غير مسبوقة في حرب العراق وما بعدها، وفي الحرب المفتوحة في سوريا، لا سيما بعد ان تحولت إلى «ارض جهاد مقدس» لنصرة الدين، يشارك فيه مقاتلون ينتمون إلى حركات إسلامية متطرفة، وبعد ان دخل «حزب الله» طرفا في النزاع وما تلا ذلك من ردود فعل من عدد من المراجع السياسية والدينية وصل بعضها إلى حد التكفير.
÷ ثانيا، المسألة الأكثر إلحاحا اليوم بعد الربيع العربي ليست الديموقراطية والحريات وحقوق الإنسان، بل علاقة الدين بالدولة بعد ان وصل الإسلاميون إلى السلطة وبات التنافس على أشده بين الأصولية والسلفية. انه صراع على السلطة بوسيلة الدين، ذلك ان الحركات الإسلامية الحاكمة تتعامل ببراغماتية لافتة مع الدول الكبرى وتراعي مصالحها. وما السياسة التي تتبعها مصر مع الولايات المتحدة ومع إسرائيل في اطار اتفاقية كامب دايفيد سوى تأكيد على هذا النمط الواقعي في السياسة الخارجية. الا ان معركة الإسلاميين الفعلية هي في الداخل، مع معارضيهم المطالبين بعدم ادخال الدين في شؤون الحكم وممارسة السلطة.
÷ ثالثا، لعل النفوذ الأكبر في النظام الإقليمي العربي مصدره اليوم إيران وتركيا، الدولتان الأكثر طموحا وقدرة على التأثير في مجرى أحداث المنطقة. إيران الإسلامية باتت دولة عظمى في المحيط العربي، لا سيما في العراق، وفي العلاقة الإستراتيجية التي نسجتها مع النظام السوري خلال ثلاثة عقود. اما تركيا العلمانية فيحكمها حزب إسلامي اكتشف اخيرا ان عمقه الاستراتيجي هو العالم العربي وانه قادر ان يتبع سياسة خارجية "بصفر مشاكل". انغمست تركيا في مسائل المنطقة بشكل غير مسبوق، وخصوصا في الأزمة السورية، وكانت أكثر المتحمسين لإسقاط النظام الحاكم. انه استكمال لمشهد الانقسام المذهبي، داخل الدول وفي ما بينها، الذي يلف العالم العربي.
÷ رابعا، هذه التحولات تجري في زمن التراجع الاستراتيجي لاهمية المنطقة بالمقارنة مع مراحل سابقة، وتحديدا خلال حرب العراق حيث كانت المواجهة الأميركية مع ايران ودول أخرى، وقبلها في الحرب العراقية – الإيرانية والاجتياح العراقي للكويت وحرب تحرير الكويت التي تبعتها. اما الحرب في سوريا فساهمت في إحياء بعض مفاصل الحرب الباردة لا سيما بعد ان اخذت روسيا درسا من التدخل العسكري للحلف الاطلسي لاطاحة النظام الليبي. إلا ان الأزمة السورية لا تشكل خطرا مباشرا على المصالح الحيوية للولايات المتحدة التي لم تقدم الدعم العسكري المطلوب الذي تسعى اليه المعارضة السورية وداعميها من الأطراف الدولية والإقليمية، وهي الآن على وشك الانسحاب العسكري من أفغانستان في العام 2014. الواقع، ان ما يجري في سوريا نزاع يلائم جميع الأطراف بعد ان تم تحديد الخط الفاصل، سياسيا وعسكريا، بين واشنطن وموسكو، وبعد ان بات النزاع العربي – الإسرائيلي لا يشكل تهديدا مباشرا الا على الفلسطينيين والعرب وليس على إسرائيل وسياساتها التوسعية المتواصلة.
في ظل هذه الأوضاع الشائكة، ومع التغيرات الكبرى التي حدثت قبل الربيع العربي وبعده، يبدو المشرق العربي في حضرة "مُسألة شرقية" جديدة، فهي ليست نزاعا بين الدول الكبرى، مثلما كانت عليه الحال في زمن الإمبراطورية العثمانية التي تناتشتها الدول الأوروبية الفاعلة، بل صراع على السلطة بين "الدول الكبرى" في المنطقة، أي إيران وتركيا، بينما مصالح أميركا وروسيا غير مهددة. دخلت روسيا طرفا في النزاع السوري لدعم النظام، إلا انها لا تسعى إلى استعادة مواقع نفوذ خسرتها في المنطقة في ظل حكم الإسلاميين. والوضع عينه ينطبق على أميركا التي تعاملت مع تحولات الربيع العربي بواقعية مطلقة ما دامت مصالحها الأساسية مؤمنة. أما الفراغ الكبير فمصدره النظام الإقليمي العربي وتراجع نفوذه وتماسكه. فلا قضية له اليوم سوى إسقاط النظام السوري، وهو عاجز عن القيام بهذا الدور من دون دعم دولي، وتحديدا أميركي.
في الواقع المسألة الشرقية المعاصرة هي سلسلة مسائل متداخلة، وهي مطروحة في المشرق العربي: المسألة السورية، والمسألة العراقية، وطبعا ام المسائل العالقة في فلسطين. فإذا كانت ساحة الصراع اليوم سوريا، فهذا لا يعني بالضرورة ان دولا جديدة ستنشأ. فالحروب تنتهي عادة اما بتسوية سياسية أو بهزيمة طرف وفرض شروط المنتصر عليه، وليس بالضرورة بإنشاء كيانات دول جديدة.
لقد ولى زمن قيام دول جديدة في المنطقة، ذلك ان إنشاءها يتطلب دعما دوليا وإقليميا، لا سيما في المحيط المباشر. اما الدولة الوطنية فهي فعل قائم يعبر عن واقع سياسي واجتماعي وشبكة مصالح واسعة بمعزل عن طبيعة النظام وهوية حكامه. فالمد القومي العربي في زمن صعوده لم يستطع ان يلغي كيان دولة قائمة، لا بل ادى إلى تجذير الدولة الوطنية. والاجتياح الأميركي للعراق، لم ينتج دولا جديدة في العراق، وإن أعطى الأكراد وضعا مميزا في إطار نظام فدرالي يحدد تقاسم السلطة ضمن الدولة الواحدة. ولبنان، الذي شهد كل أنواع النزاعات والاجتياحات العسكرية خلال خمسة عشر عاما، لم تنته حروبه بقيام دول جديدة بل بتسليم دولي وإقليمي لواقع السيطرة السورية على القرار. كما ان الاجتياح العراقي للكويت في العام 1990 ومحاولة الغاء الدولة عبر تحويلها إلى محافظة عراقية، واجهه المجتمع الدولي بحرب ضارية، أعادت الكويت إلى كيانه كدولة مستقلة. ولم يقم الوطن الفلسطيني البديل في الأردن على رغم الحروب وهشاشة الوضع الأردني منذ نشوء الدولة، وعلى رغم محاولات إسرائيل السير في هذا الاتجاه منذ زمن طويل.
الحالة الوحيدة التي أدت إلى قيام دولة مستقلة في المنطقة حصلت في السودان مع الانفصال الذي أدى إلى قيام جمهورية جنوب السودان. ولم يكن هذا المشروع ممكنا لولا الدعم الأميركي والرعاية المباشرة لتنفيذه، عبر مسار تفاوضي دام سنوات، ولأسباب مرتبطة بتقاسم الثروة النفطية في المنطقة المتنازع عليها بين الشمال والجنوب. والسودان، بانتمائه الجغرافي والتاريخي إلى افريقيا، هو خارج دائرة النزاعات والعصبيات والمسائل الخلافية التي شهدها العالم العربي في السنوات الأخيرة.
لم تطرح الانتفاضات الشعبية الأخيرة مسألة الحدود بين الدول بل مفاصل السلطة داخل الدولة. الربيع العربي لا يهدف إلى إحياء دول جديدة بل أنظمة حكم جديدة تستمد شرعيتها من الشعب وتسودها الحريات والمساواة. فاذا كان سايكس بيكو نتاج مرحلة انتقالية بعد حرب عالمية، فان نزاعات اليوم، ومنها الحرب السورية، ليست وليدة تحولات فاصلة بين حقبة تاريخية وأخرى. فباستثناء مصر التي لم تتأثر بتحولات المرحلة الانتقالية بعد الحرب الأولى لأسباب معروفة، فان المشرق العربي شكل ساحة لتوزيع التركة العثمانية ذلك لأنه كان الأكثر أهمية بالنسبة إلى الدول الكبرى حيث نشأ نظام الانتداب، وحيث فلسطين مستهدفة من الحركة الصهيونية على أساس وعد بلفور في العام 1917، وفي زمن كان النفط في بداياته في العراق وليس في الخليج العربي.
الدولة الوطنية بحدودها الحاضرة قائمة في المنطقة وليس ثمة فراغ يجب ملؤه بدول جديدة تأمينا لمصالح الدول الكبرى، مثلما كانت عليه الحال في زمن سايكس – بيكو. وفي سوريا، التي هي الآن الأكثر عرضة للتشرذم، فلا مصلحة لأي طرف دولي أو إقليمي ان تنشأ كيانات جديدة على أنقاض الدولة، بل ان ما تسعى إليه أطراف النزاع إدخال سوريا في دائرة نفوذها بوسيلة الترغيب أو الترهيب.

لن تنشأ دول جديدة على أنقاض الدولة الوطنية في المشرق العربي، وهي لا تزال الكيان الأقوى والأكثر شرعية من أية مشاريع بديلة، خصوصا بالنسبة إلى أطراف الخارج المنخرطة في النزاع. فلا مصالح الدول الكبرى تؤمن عبر التفتيت والتقسيم، كما ان عملية الانتقال من حالة إلى أخرى ستكون باهظة الكلفة على المستويات كافة، وهي غير مضمونة النتائج. يبقى ان الدولة الوحيدة التي يجب ان تنشأ هي فلسطين، الا ان العرب عاجزون عن تحقيق هذا الهدف، والعالم لن يكون أكثر ملكية من الملك.

صحيفة السفير اللبنانية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى