المساءلة المضمرة لمجموعة من مفاهيم الاشتغال النقدي

 

يهدف كتاب “المكون الاستعاري وبناء الدلالة في النص الإبداعي العربي” إلى المساءلة المضمرة لمجموعة من مفاهيم الاشتغال النقدي، واختبار مدى فاعليتها في مساءلة النصوص، وهي وفقا لرؤية للمؤلف الناقد د.جمال بوطيب كلها مفاهيم لا تتوخى تجريب الفاعلية النقدية في حد ذاتها، بقدر ما تسعى إلى متابعة البناء التصوري للمفهوم في تطوراته التطبيقية وممارساته التحليلية.

اختار بوطيب أربعة مكونات مضمرة هي “المكون” و”الاستعارة” و”البناء” و”الدلالة”، وأشار في كتابه الصادر عن دار خطوط وظلال الأردنية أنها كلها مفاهيم تصب في مفهوم جامع مطلق الدلالة، منطقي الإحالة، لغوي التكون، هو مفهوم “المرجع”، هذا المفهوم الذي سيتردد في المتون التطبيقية ويشتغل وفق آليات ومقاييس تفرضها طبيعة المساءلة المتراوحة بين الإعلان والإخفاء والإضمار والإظهار للإجراءات المنهجية التطبيقية.

ولفت بوطيب إلى أن المفاهيم الأربعة “المكون” و”الاستعارة” و”البناء” و”الدلالة” تتجمع في مفهوم واحد هو “المرجع” كما يتبناه الكتاب غير أنه في الوقت نفسه سيكون مفهوما منجابا، إذ تنبثق منه مفاهيم أخرى مثل مفهوم “الأسطرة” ومفهوم “الإبداعية” ومفهوم “القيمة التمثيلية” وغيرها من المفاهيم التي يتم الحديث عنها في ثنايا الكتاب”.

يمكن للنص العربي الإبداعي الذي اتخذ هذا الكتاب متنا أن ينظر إليه وفق إشكالية عامة هي العلاقة التكاملية أو التنافرية بين المكون الاستعاري من جهة وبناء الدلالة من جهة أخرى

واختار بوطيب أن يسائل عددا من تجارب الكتابة الشعرية في الكتابية الإبداعية العربية من خلال مفهوم “الأسطرة” ومفهوم “الإبداعية” والتعديل التصوري التوقعي لمفهوم المكان من خلال الصحراء، وتناول القيم بعيدا عن بعدها “الايتيقي” (الأخلاقي)، وقريبا من مفهومها “الاستطيقي” (الجمالي)، وهو حين اشتغل على هذه النصوص جمع بين البعد “التأليفي” والبعد “التوليفي” والبعد “الترجمي” والبعد “الديداكتيكي”، منتهيا إلى إمكانية التساؤل عن أعراف كتابية انطلاقا من مفهوم المرجع باعتباره مفهوما نقديا جامعا”.

وحيث إن النص الإبداعي العربي كان يخضع في كتابته باستمرار لسياقات ومرجعيات ثقافية وفنية، حرص بوطيب سيرا على اختيار منهجي واع على اعتماد الإجراءات العلمية التالية: أولا تحديد المتن المدروس وتصنيفه. ثانيا استقراء النصوص بهدف ضبط المرجعيات. ثالثا تصنيف المرجعيات بحسب الخلفيات النظرية والفكرية مما يسمح بتحديد منهج التحليل المناسب. رابعا تقسيم المرجعيات إلى: الجاهز النظري “الأيديولوجي والعقدي” ـ المتص الإبداعي “المقروء والمتعلم والمرئي” ـ المستشرف الرؤيوي “نبوءات المبدعين”.

أما على مستوى المنهجية فإن بوطيب اختار الانطلاق من الأسس الكتابية والبحث في منشئها ونموها وطرق استنباتها ومآلاتها النصية، وفي كل هذه الأسس سعى إلى التركيز على الآس المرجعي إيمانا منه بأنه “إذا كان الأس هو بحث في أصل المدلولات، بل إن الأس باعتباره بناء حدود ورفع قواعد، فإنه سيكون مفهوميا هو الحدود المرجعية والقواعد الإحالية التي يمكن اعتبارها مبتدأ الشيء. ولما كان الشيء مطلقا، فإن تقييده ها هنا هو النص النص الإبداعي العربي، يتعلق الأمر إذن ببحث في الحدود والمرتكزات والمبتدءات المرتبطة بخلفيات الإنتاج الإبداعي العربي”.

وأضاف “إن مفهوم المرجع ها هنا يكتسب صبغة الجامع من كونه مفهوما مؤسسا على خلفيات نظرية متعددة “اللسانيات والانتروبولوجيا وعلم النفس وغيرها”، بعيدا عن كونه مفهوما ذا طبيعة ايديولوجية، مع ضرورة التمييز بين الأيديولوجي والعقدي في تعالقهما، علما أن الأيديولوجي نفسه قد يكون مفهوما ومرتكز تحليل ومساءلة، فقد “اهتمت مجموعة من الدراسات “ألتوسير، ريكور، ماركس، العروي، الجابري” بالإيديولوجيا باعتبارها مفهوما، كما سعت بعض هذه الدراسات إلى التنظير للإيديولوجيا في غير قليل من التجاوز أحيانا الذي يصل حد اعتبار المقدس “الدين” إيديولوجيا. ولذلك اخترنا إجراء منهجيا للفصل بين العقدي والأيديولوجي يتأسس على التمايزات الآتية: أولا؛ ثبات العقدي وتغير الإيديولوجي. ثانيا؛ ربانية العقدي وبشرية الإيديولوجي “يمكن للعقدي الرباني أن يصبح بشريا بتحوله إلى ممارسة وطقوس لا غير”. ثالثا؛ تحول العقدي إلى بشري لا يعطيه بالضرورة صفة الأيديولوجي. رابعا؛ الإيديولوجي ممارس ناقد، والعقدي ممارس عابد. غير أنه يمكن للعقدي الحاصل على صفة البشرية أن يصبح إيديولوجيا بتحول المعتقد من معتقد إلى آخر “تغير الديانة، حالات ردة، العبادة بالدرجة”.

من التجارب التي طبق عليها بوطيب رؤيته النقدية تجارب أحمد صبري، محمد علي الرباوي، محمد الثبيتي، محمد السرغيني، محمد الميموني، محمود درويش وغيرهم. وذلك من خلال خمسة مباحث كبرى هي: الأسطرة: استعارية التكوين وتحولات الدلالة: المكونات المرجعية في نصوص محمد الثبيتي ـ المرجع الأفق: الفضاء والإبداعية: إضاءة مفهومية: في الإبداعية والمرجع ـ الدلالة بين الأدبي والعلمي: في ديداكتيك ترجمة المصطلح العلمي ـ بلاغة التأليف ومرجعيات القراءة: مفهوم الخبر أنموذجا.

انتهى بوطيب إلى خلاصات تركيبية سبق الإشارة إليها في شكل فرضيات تمت صياغتها بشكل مضمر وتم تمحيصها بمنهج معلن ومنهجية تحريرية قائمة على كثير من الاجراءات التي تعود إلى هذا المنهج البحثي أو ذلك، ولعل من أهم هذه النتائج:

ـ الدلالة في النص الإبداعي تبني ولا تسبق المقول اللفظي، وبناؤها يتحكم فيه الاشتغال السياقي تماما كما تتحكم فيه المرجعيات والخلفيات النظرية للمفاهيم، وتماما كما تتحكم فيه التصورات المسبقة والناشئة لدى منتجه.

ـ الاستعارة النصية هي مكون اشتغالي بمفهوم المكون كما في علم التوالد “الجينيالوجيا” والقائم بدوره على تقنية التطور المرحلي والتفرد في الخصائص باعتبار المراحل العمرية الجنينية السابقة للولادة، لتكون الولادة البلاغية صحيحة ومقبولة وغير مردودة على صاحبها سواء أكان مكتوبة ينزع نحو بعد تأليفي أو نحو بعد توليفي.

ـ المرجع يتجاوز الواقع والمعيش ويتجاوز العلاقة الاعتباطية بين الدال والمدلول والصورة السمعية والصورة الذهنية ليصير مرجعا احتماليا موسعا قادرا على خلق دلالته الجديدة غير المسبوقة وغير المتداولة باعتبار إحالة على المعيش ليصير رمزا وخيالا ونصا لم يكتب بعد.

ـ البناء ليس حمال أوجه لتفرده على مستوى بنيته اللفظية بالدلالة على التطور والتغير والخلق والإنشاء، مما يجعل أي تسييق مفهومي له ينبغي أن يكون مراعيا لدلالته المباشرة وبعدها لدلالاته الاشتغالية المنفتحة على حقول معرفية أوسع.

ويخلص بوطيب إلى القول إنه بناء على هذه الاستنتاجات يمكن للنص العربي الإبداعي الذي اتخذ هذا الكتاب متنا أن ينظر إليه وفق إشكالية عامة هي العلاقة التكاملية أو التنافرية بين المكون الاستعاري من جهة وبناء الدلالة من جهة أخرى من خلال مفهوم المرجع الذي يمكن للأدبيات العربية الموروثة لاسيما في كتب المحاضرات أو للمترجمات التصورية الحديثة لاسيما في كتب بناء المفاهيم، أن تجعل من تطويره أمرا ممكنا ومشروعا.

 

 

 

ميدل إيست أون لاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى