‘المستوطنة الأخيرة’ رحلة البحث عن النبل الإنساني
‘المستوطنة الأخيرة’ رحلة البحث عن النبل الإنساني”في البدء كانت الفكرة”، فالفكرة هي معلم رئيس في خرائط تأسيس الإبداع قاطبة. لذلك كانت أي مقاربة صحيحة تقوم علي اكتشاف المغزى، أو بتعبير دقيق الأثر الباقي من الأثر الأدبي بعد التمتع بسكرة المتعة في المطالعة، والتي هي البساط السحري الذي يحمل قصدية المؤلف للقراء.
وقد تحققت في رواية “المستوطنة الأخيرة – نياندرتال 2” لمؤلفها د. سراج منير، المتعة الفنية، والثيمة الموضوعية، أما المتعة الفنية فهو الأمر الذي اتفقت حولها جميع المذاهب الأدبية، ورأتها أساسية في عملية التلقي، هذه المذاهب التي اختلفت فيما بينها في تقدير الثيمات الموضوعية. فالرواية تحب قارئها منذ اللحظة الأولي ويجدها وجبة شهية للقراءة في عدد محدود من جلسات القراءة. ونبدأ القصة من البداية:
تصنيف الرواية:
تنتمي الرواية لعدة فروع من الأدب الأمومي (أدب المغامرة التشويقي أو أدب من فعلها أو الأدب البوليسي)، حيث هي رواية هجينة تحمل سمات من أدب الفانتازيا، وأدب الخيال العلمي، وأدب الخيال السياسي.
ولكن يغلب عليها سمات أدب الفانتازيا أو الخيال الموغل في التخييل، فهي رواية فنتازية ملحمية كوكبية، من خلال تأسيس عوالم جديدة وأجناس جديدة، خاصة إنسان النياندرتال، أو جنس الأديتين، بل برع المؤلف في نحت تراث ثقافي وديني وشعبي للإديتين مثال صك أمثال شعبية وأقوال مأثورة ونصوص دينية خاصة بهم.وتأسيس ذاكرة تاريخية جديدة مثال شارع 13 يوليو. وتخليق خريطة وأماكن طريفة ومرعبة، من خلال خلخلة الأماكن التي نعرفها جيدا، وتدمير التركيبة السكانية بالهجناء. أيضا تأسيس نظام اجتماعي جديد مثال تأسيس عقود الزواج الحصرية “الحقيقية” وغير الحصرية (معادل موضوعي لنظرية كأس الماء في الثقافة الغربية)، ونسبة الأولاد ناتج هذا الزواج.وكاتب الفانتازيا رغم مفارقته للواقع فإنه يرصد الواقع أيضا ويرفعه إلى مستوي فني بوسيلة فنتازية، خاصة مع حضور العنصر البشري كخلفية رئيسة في سلوك الشخصيات الروائية.
أما أدب الخيال العلمي والذي يعني حضور أولية أو نظرية علمية حاضرة في الواقع المعيش ثم التطوير عنها للتبصير بالمستقبل التقني والاجتماعي والإنساني بعامة. فنجد جملة من المنجزات العلمية في تصور المستقبل الطريف مثال: القطار الهوائي ومركبات طائرة، والتكوتك الطائر، والشاشات الفراغية، ومنظار التعرف علي الأشخاص بتقنية الوجوه، وتطويرها بمنظار التعرف باستخدام البنية الجسدية، ودرجة كثافة العظام والعضلات. وتطور الطب والإسعاف وإيقاف النزيف فورا بمواد تشبه السحر، ومجسات ومستشعرات للتأكد من سلامة العظام، والحرب الحديثة بالكائنات الآلية الذكية أو المتعلمة، والإلكترونيات والقنابل الموجية، والبدلة المقاومة ذات الثغرة في الرقبة مثل “كعب أخيل”،والمسدس الذي هو قبضة معدنية … إلي آخره. الأمر الذي يعد معه العراك بالأسلحة التقليدية حرب بدائية مثلما نقول نحن الآن عن المعركة بالسيوف والخيول. وأيضا اكتشاف مصادر جديدة للطاقة والصراع حولها. وأيضا الجدار العازل الإلكتروني والمستعرات وأجهزة التشويش لها. وأن حضر أيضا مبتكرات فنتازية كان لها تأثيرها في المسار الروائي نموذجًا: أجهزة الانتقال عبر الصدع الكوني. وهناك أيضا الوقود غير المألوف المعقد الغير ملوث للبيئة
أما أدب الخيال السياسي فيعد السمت شديد الوضوح في عباءة الرواية، اتضح بقوة في إعادة تدوير أسطورة “أرض الميعاد” الديينة بتخريج فنتازي وعلي مستوي كوكبي مثير، في ثريا الرواية وأيقونتها الرئيسة ذاتها نجد مفردة “المستوطنة” وفي المتن الروائي نجد “الأرض المحتلة”، وحضور صفقات لتبادل الأسري …. إلى آخره. وهذا برهان جديد أن كاتب الخيال المحلق يكتب وعينه علي الواقع العروبي المعيش المتعثر. فجني النياندرتال هو مسخرب كوني يمثل المعادل الموضوعي للمستخرب العصري. وظهر أيضا الخيال السياسي في عناوين “مقموعون وقتلة” عنوان القسم الأول، وفي ظواهر القمع المنوعة بما يجعله ينتمي أيضا لفرع “أدب المدن الفاسدة” أو “الديستوبيا” مثال: تعسير زواج الأرضيين، وتيسير زواج الإديتين، إهمال اللغات المحلية للبلاد المقموعة، وتجذير ثقافات المحتل ومنع الملكية الخاصة، وحضور المواطن “معاذ” الذي يمشي داخل الحائط، معسكرت اللاجئين، هدم البيوت ونفي سكانها الأصليين، أو تجميعهم في أبراج القري، قمع الاجتجاجات بآلات شيطانية، ومشاهد القتل اليومية، وحالات الإعدام الجماعي للمقاومين، حتى تباين مواقف الجموع البشرية من الاحتلال، ووجود فئة مستسلمة ترى أن المقاومين ينغصون الأيام الهادئة، وهم أصحاب الهشاشة النفسية، ووجود المقاومة الرسمية وأخرى شعبية، ووجود الظهير الشعبي للاحتلال من خلال تبديل التركيبة السكانية من خلال الأسر الهجينة “المستوطنون الجدد”، وحضور الجدل بين “الحرية العسيرة والعبودية المريحة” بتعبير الرواية. حتي دور الإعلام المحتل ودعايته الكذوب لدعم المصالح ودهس المبادئ، مثال: الحملة الدعائية للتطبيع مع الأرضيين.
تقنية الاسترجاع خارج زمن الرواية:
استهلت الرواية ذاتها بموقف بموقف يمثل التوتر والتهديد وهذا جيد لأنه يحقق مطلوب القارئ، حيث زمن الأحداث 2043 بارتداد سردي داخل الزمن الروائي بسرد غزو الأرض من قبل الإديتين حوالي 2034 أو 2033، ورحلة الذاكرة مع الاستعانة برمز شعبي “عمر الزيبق” رمز الأسطورة الشعبية للمقاومة. ولذلك بدأ بمقدمة تاريخية مثلت تقنية الاسترجاع الروائية الخارجية أي خارج زمن الحكاية، وهي تمهيد لا غني عنه للرواية، والتي ُتقرأ مستقلة، لذلك لم أؤيد وضع العنوان الفرعي “نياندرتال 2″، حيث قد ينصرف القارئ عن مطالعة رواية تعد جزء ثان لجزء أول لا يصل إليه لكنه قد يحب مطالعة نفس الكاتب وستكون مفاجأة سارة له اكتشاف أن استرجاع ما قبل زمن الحكاية له رواية أخرى.
نفي مفهوم الرواية المحترقة:
بعض المقاربات ودون حرق أحداث الرواية، دليل من متعة قراءة الرواية الأولي رغم مطالعة ملخصها في مستهل الجزء الثاني، ولهذا أسراره:
من خلال متعة التفاصيل الكثر في مسار غير مشتت ومشوق، والحبكة الممتدة، وخيوطها الكثر، وتسريب ممنهج وممتع طوال الوقت حول القصص الخلفية لحياة كاملة بين كوكبين وجنسين ثم لقاء هذين الجنسين والتفاعلات المنوعة بينهما بين حب وكره وقرب وبعد وصداقة وعداوة ولقاء وفراق، ووعبر رواية أجيال فنتازية أو رواية انسيابية بالتعبير الفرنسي.
أيضا الشغف في الإيقاع في الأسماء للشخصيات الروائية (شادية وزهرة / عماد وإياد / سمير وسمر / كميردا وكاميليا / نهايات أسماء الأماكن الفنتازية الجديدة “فاديل”، “بشيل”، “بنيل”)، وقد انسحب هذا الشغف نحو التنويع والنفريع دائما من الأصل، وإحداث تباديل وتوافيق بين الأجناس والمواقف والعلاقات بصورة ممتعة ومثيرة، ففئات التنويع لا تتوقف طوال المتن الروائي والإشباع بغرائبية التصنيف، وكأن القارئ دخل غابة كثيفة من أحراش الذات الإنسانية بين السمو والحقارة، وبين الشر الخالص والنبل الإنساني والهجين بينهما، لذلك نجد القوس العاطفي حاضرا بتبديل مواقف وقيم الشخصية الروائية “باسل” وغيرها من شخصيات، وتسمي الشخصية النامية أو المستديرة والتي يتم ترقية مواقفها أن تعديل قيمها ناتج توتر الصراع الروائي.
ومن خلال تعبيرات تعجب القارئ بعضها حكيم وبعضها مجازي، مثال: هدم البيوت بمعدات حديثة “فتجعل البيت يرتعد كفرخ مبتل”، وتعبير القلب المستبيح للقبح، والقبح كمال كلما استزدت منه قل شعورك بكثرة ما لديك. ومن ناحية أخرى مشرقة في قصة الحب الراقية: “كانا يمتلكان مفاتيح بعضهما، يعرف كل واحد منهما متي يخفض للآخر جناحه ص 276
وأيضا:نحت مقولة “المساواة في الظلم عدل”: “القوانين المجحفة تحقق العدل حين يلتزم بها أكثر من القوانين المثالية التي يضرب بها عرض الحائط”
وحول فلسفة المقاومة: “لأن أحارب الطاغية بسيف خشبي خير لي من أن أستعير سيف طاغية آخر أحارب تحت رايته”، وأيضا: “المقاومة ليست هي الغاية في ذاتها بل هي مجرد وسيلة لهدف أسمي” ص 86، وأيضا: “المقاومة تجعل الحياة ذات معني” ص 212، والظلم ُيفقد البوصلة ص 221
وعن فكرة التعامل مع العدو بين التهوين والتهويل في فكرة قدر عدوك حتي تهزمة.
وعن الضباب الفكري وتحرير الموقف الأخلاقي، أو بتعبير الرواية “المتاهة العقلية”: “ليس هناك حقيقة مطلقة ولا زيف مطلق هناك دائما نقطة كائنة بين الحقيقة والزيف” “بتصرف” ص 66، وفي موطن روائي آخر: “المثالية قد تصلح بعض الوقت لكنها لا تبني واقعا حقيقيا” ص 130، وهنا تشرق القيمة الموضوعية للرواية وهي التنقيب عن النبل الإنساني وكيف يمكن جعله واقعا ممكنا، فهناك أسئلة روائية حول من يرتكب الفظاعة، ومن المدين ومن المدان، ويتضح النبل الإنساني ختامًا في شتلة الحب الرومانسية التي تثمر الإنسان السوي الذي يعتنق لغة التغافر، ووأد الحقد القديم، وأساسا تحقيق التنوع الثقافي والذي أشرق بقوة في خواتيم الرواية، والتنوع الثقافي قيمة عليا في الرواية، وحقيقته أنه تعدد ثقافي غير ضار لأنه مضبوط بمعايير قيمة منها المسامحة وقبول الآخر، ونفي العنصرية، وقيمة التعاون، أو بعبارة الرواية “التعايش هو ثمن النجاة”