المسكوت عنه في الأزمة اللبنانية
“إنه النفط يا غبي”. قالها كيسينجر في القرن العشرين لمَن أراد أن يُحلّل أيّ حدث سياسي دولي. ومنذ مطلع القرن الواحد والعشرين أصبح بإمكاننا أن نقول: “إنه الغاز يا غبي!”.
لبنان المدين، لبنان المأزوم، لبنان عديم الإنتاج، يملك فرصة الخروج من أزمته بفعل الاكتشاف الكبير لمخزون بحره من الغاز. لكن العالم لا يعرف إلا نموذجين من نماذج مُنتجي الغاز: نموذج الدول التي تمتلك طاقتها، ونموذج الدول التي جعلها نفطها عبدة للشركات العملاقة.
في النموذج الأول ثمة دول يحسم قوّتها أمر ملكيتها التي تتماهى مع شركاتها، وثمة دول أقل قوّة تناضل لأجل استقلاليتها منذ مصدق إلى الثورة في إيران إلى شافيز في فنزويلا وغيره في أميركا الجنوبية، إلى منطقتنا من مصر عبدالناصر وعراق صدّام حسين، إلى سوريا مؤخّراً.
أما النموذج الثاني فهو نموذج دول الخليج العربية التي سبق فيها وجود الشركات النفطية على قيام الدول، وبالتالي أوكلت أمرها صاغِرة إلى الشركات، واحتفظت بنِسَبٍ معينة تكفيها بالنسبة إلى ضخامة إنتاجها ومحدودية ديموغرافيتها.
لبنان لا يستطيع أن يكون لا هذه ولا تلك، لكن بإمكانه أن يساوِم وبفعالية على النسبة التي يحصل عليها من بحره. لكن واقع الفساد فيه يبقي السؤال حول ما إذا كانت هذه المساومة تذهب إلى ميزانية الدولة أم إلى جيوب الذين يتولّون المساومة مقابل قبولهم بالحد الأدنى. وفي شق آخر: هل أن الفساد والارتهان السياسي يتركان للمفاوضين حق التفاوض؟.
مراراً كرَّر الرئيس السابق إميل لحود قصة صراعه مع الرئيس رفيق الحريري حول الغاز، واستقدام الأخير لباخرة استكشاف فرنسية تمسح البحر بحجَّة البحث عن الألغام. لكن مصادفة كون لحود مهندساً بحرياً عسكرياً كُشفت اللعبة وأوقفت العملية، لتبدأ الحرب الضروس ضدّه ومُقاطعته ومُطالبته بالاستقالة. (يقول قائل إن هناك أسباباً أخرى منها المقاومة والتحرير، وهذا صحيح لكنه يقع من حيث المنحى الاقتصادي في جوهر هذا الصراع).
يريد الأميركي إلحاق إيران وسوريا ولبنان بشركاته، (ولبنان الحلقة الأضعف)، كما يريد تأمين مصلحة وأمن “إسرائيل”، من خلال هذا الإلحاق، ويريد وضع سدّ في وجه الصين وروسيا وأوروبا (خاصة الصين) عملاً بما كتبه كولن باول عام 1990: “لا شك إننا نحتاج إلى إلحاق الشرق الأوسط النفطي بنا في مواجهتنا المقبلة مع الصين وأوروبا”، وعليه فالصين تحاول الدخول إلى المنطقة، وأوروبا مثلها.
في أوروبا، فرنسا المسكونة بذاكرتها الانتدابية وحصّة جورج بيكو في لبنان وسوريا، والتي ترقص سياستها في المنطقة على إيقاع شركتين: “توتال” و”داسو”. هي التي دعمت عراق صدّام حسين لأجل “داسو” وهي التي ناورت مع سوريا الأسد لأجل “توتال” (غضب شيراك بعد رفض سوريا عقد لـ”توتال” ومنحه لشركات أخرى، وتقاربت في ذلك مع الحريري الأب. وظلّ سَلَف جاك شيراك، نيكولا ساركوزي، يحاول تعويض الأمر واحتواء الأسد لأجل مد خطوط الغاز من قطر إلى المتوسّط، وعندما فشل دعم الحرب على سوريا واحتضن المعارضة التي ظنّ أنها ستستلم الحُكم).
فرنسا إيمانويل ماكرون هذه تبدو الأقرب إلى الرئيس الحريري، أو أنها تحاول احتجازه، منذ أزمة الاحتجاز وحتى زيارة مبعوثها إلى بيروت، قبل أيام، مروراً بإصرارها المُعلَن على بقائه في الحُكم. دعم يجعلنا نتوقّف أمام سلسلة من الأحداث والأسئلة:
– بعد الحريري الأب أكّدت عمليات المسح وجود الغاز وقسمته إلى بلوكات، وانتقل الحديث إلى تلزيمه واستخراجه. وبدا أن الأزمة الوحيدة هي مسألة ترسيم الحدود البحرية مع فلسطين المحتلة. تلك المسألة التي وجّهت المقاومة رسالة مبكرة بخصوصها، تمثّلت في قصف البارجة الإسرائيلية في مياه البحر. بعدها تولّى الأميركي مسألة الضغط بشأنها.
– مذاك كانت عمليات التلزيم والتشريع للإفادة من هذه الثروات، تسير بشكل حثيث في ظل صمت مُطبَق من الإعلام اللبناني الذي يضجّ تكراراً بأسخف التفاصيل.
– كانت “توتال” في طليعة مَن ظفروا بعمليات التلزيم، إلى جانب شركات أميركية وأوروبية.
– طبعاً لم تكن المشكلة في التلزيم، فذاك طبيعي. ولكن المهم القوانين والإجراءات التي تنظّم التلزيم.
تشكّلت هيئة إدارة البترول، التي كان يتوقّع أن تتحوَّل إلى “الشركة الوطنية للبترول” كما يحصل في كل دول العالم. لكن ذلك لم يحصل.
وصدر قانون استثمار الأملاك البحرية، عام 2010، بصيغةٍ جيدة، لتنسخ القانون الجيّد المراسيم التطبيقية السيّئة التي وصلت حد حرمان الدولة اللبنانية من أيّ حق في الاشتراك في عمليات استخراج الغاز.
وأقصى ما يحق لها تسوّل الشركات تعيين مراقب لبناني لا يقوم في حال الفساد الراهنة بأكثر من التفرّج أو الاشتراك في الرشاوى، لصالح مَن يعينه. ما يعني أن النظام الذي تعرفه جميع الدول النفطية وهو نظام “تقاسُم الإنتاج” بين الشركات والدولة، قد تمّ استبعاده كلياً لصالح “نظام الامتيازات الأجنبية” الذي يلغي أية ملكية وأية سيادة للدولة على ثرواتها.
والأخطر أن الشركات التي مُنِحَت حق التنقيب بلغت 53 شركة في حين يقول الخبراء إنه لا يوجد في العالم إلا 15 شركة موصوفة، عاملة، لهذا العمل.
إذن هناك 38 شركة وَهْمية، صوَرية أو زبائنية سيقتصر دورها على قبض عمولات من الكبيرة لصالح هذا وذاك من الفاسدين، حيث منح المرسوم 35 % من العائدات للشركة العاملة و10% على الأقل لهذه الأخيرة، شرط أن تشرك العاملة على الأقل إثنتين من هذه الأخيرة في عروض عقودها.
– امتنعت حكومة الرئيس تمّام سلام عن إقرار هذا المرسوم الخطير، فاضطر إلى الاستقالة لتأتي حكومة الحريري وتقرّه في جلستها الأولى. لم يعد لبنان يمتلك غازه قبل أن يولد. تقاسمته الشركات الأجنبية وأصحاب الشركات الوَهْمية.
– استحدث الحريري في رئاسة الوزراء مكتباً لإعداد ملفات الخصخصة، لم يُشر الإعلام أيضاً إلى مجريات عمله، بل إنه ألهى اللبنانيين عنها بالجدالات السياسية السطحية والديكية (صراع الدِيَكة) وبرامج المنوّعات المخبلة والغرائزية والاستهلاكية في بلدٍ على حافّة الإفلاس، والتقارير الاستعراضية المُنافِقة التي تحرِّض وتحقن، ولكن لإبعاد البوصلة عن حقيقة الفساد والخطر.
– احتُجِزَ الرئيس سعد الحريري في السعودية، وخلال احتجازه نُقِلَ مخفوراً إلى الإمارات ليجتمع بمحمّد بن زايد لساعاتٍ أُعِيدَ بعدها إلى السعودية، فيما كان إيمانويل ماكرون يبذل كل جهده لتحريره ونقله إلى باريس لا إلى بيروت. ما يحيل إلى سؤالٍ آخر: هل كان كل ما طُلِبَ من الحريري هو الأموال السعودية، وهل كان بن سلمان عاجزاً عن تحصيلها منه؟ فلماذا إذن أًرسِلَ إلى بن زايد؟ وما الذي طلبه منه هذا الأخير؟ وبماذا تعهّد؟ وبما أن الدول لا تعمل كجمعياتٍ خيرية، وبما أنه من المعروف أن الرئيس ماكرون هو ممثل اللوبي المالي والشركات، فما الذي جعل ماكرون يتوسّط للحريري وما هي التعهّدات التي أخذها منه؟ وهل لها ارتباط بالدعم الذي يحظى به الآن؟ وهل بين ماكرون وبن زايد توزيع فروض أميركية– فرنسية؟.
– في أول كلمة له بعد الحراك، قال الحريري للمُتظاهرين أشكركم لأن ضغطكم سمح لي بتمرير ما كانوا يعيقونني في تمريره. فما هو الذي يريد تمريره ومَن هم الذين أعاقوه؟ هل أراد محاسبة الفاسدين ومنعوه؟ هل أراد استعادة الأموال المنهوبة ومنعوه؟ هل أراد إلغاء الطائفية ومنعوه؟ هل أراد انتهاج سياسة إنتاجية تحلّ أزمة الناس ومنعوه؟ هل أراد دعم الجامعة اللبنانية الحكومية المجانية ومنعوه؟ هل أراد إقرار حق الطبابة والشيخوخة ومنعوه؟ هل أراد تحصيل حق لبنان في عائدات النفط والغاز ومنعوه؟ الخ…. أم أن كل ما أراده هو تمرير الخصخصة بصيغتها أو التي وضِعَت له والتزم بها؟.
– في تعداد قائمة الخصخصة التي أوردها بدأ بالمطار وانتهى بالمرفأ، مروراً بالاتصالات والكهرباء ومياه لبنان والكازينو.. لكنه لم يذكر النفط والغاز اللذين تفوق عائداتهما المرافق الأخرى مجتمعة. ومَن يعرف المنطقة يجد أن في كل ذلك نسخة طبق الأصل من التجربة الأردنية التي بدأت بالمطار والاتصالات والكهرباء ووصلت الثروات الطبيعية. إنها وصفة البنك الدولي. وبالمناسبة فإن هذه الوصفة تضمّنت – في الأردن – إدخال وزراء تكنوقراط إلى الحكومة مبنيون في أميركا وفي البنك الدولي، ومنظمات المجتمع المدني المموَّلة أجنبياً.
– استقال الرجل، وبدا أنه خضع لضغوط فاقت التزامه أمام حلفائه في السلطة بعدم الاستقالة. فهل لها علاقة بتعهّداتٍ سابقة؟.
– بعد الاستقالة بدأت عملية مُلفِتة لحَرْقِ جميع الشخصيات السنّية الوازِنة التي يمكن أن تنافسه على الحُكم: نجيب ميقاتي، فؤاد السنيورة وأخيراً محمد الصفدي. هم فاسدون. نعم، ويستحقّون التّهم. نعم. ولو لم يكونوا كذلك لما اصطّفوا مُرغَمين لإعلان دعمهم له، فالفاسِد لا يستطيع التمرّد والرفض. ولكن لماذا تمّ التركيز على السنّة من دون غيرهم؟ كي لا يبقى في الساحة إلا الحريري ويتم فرضه كالمُنقِذ ويُنفِّذ برنامجه للخصخصة كما هو؟.
– في بداية الأحداث تسرَّب نبأ تباطؤ “توتال” في عمليات التنقيب، وبرز ذلك بأنه تواطؤ مع الإسرائيلي. لكن ألا يمكن أن يكون ذلك ترّقباً لكيفية اتجاه الوضع اللبناني؟ وماذا عن الشركات الأخرى؟.
– الأهم في كل هذه الأسئلة المُقلِقة، أن سعد الحريري ليس وحده مسؤولاً عن كل إجاباتها. فهو لم يكن رئيس الوزراء الوحيد منذ والده، وعندما حَكَمَ لم يحكم وحده. هو لم يرغم الآخرين على مُجاراته ولم يُمسِك بكفّه ويضعها على فم مَن كانوا يشاركونه السلطة، ولم يُجبِر الإعلام المُرتَزِق المُتسوِّل على أن يتسوّله ويتسوّل دول الخليج والشركات، بحيث يصبح صدىً لها، وبحيث يحوِّل نظر هذه الجماهير المُحتَشِدة في الشوارع عن كيفيّة تحقيق أهدافها الوطنية والمعيشية المُحقّة، نحو مُصادَرة غضبها المشروع لإقرار خطط تذهب بها إلى أسوأ مما هي فيه، ويشجّعها على الصُراخ حتى البحّة، وربما (للبعض) على اكتشاف باب جديد للارتزاق وتدرّب على الفساد.
– ويظلّ السؤال لماذا يصمت الجميع، وفي مختلف الدوائر السياسية ووسائل الإعلام عن قضية النفط والغاز؟.
عندما وصل ماكرون إلى الرئاسة كتبت “لوموند دبلوماتيك” في عنوانها: “صنعوه ليخدمهم؟”. فكم من زعيم سياسي ومن مُندَّسٍ في الساحات عالي الصوت صنعته الشركات وأجهزة المخابرات ليخدمها؟.
الميادين نت