المسيحيون: هجرتهم إفقار للهوية العربية (حنا عيسى)

 

 حنا عيسى

يزداد الحديث في الآونة الأخيرة عن الوجود المسيحي في الدول العربية وبالأخص في المناطق الأكثر سخونة مثل فلسطين، العراق، لبنان وسوريا.
وقبل الخوض في مسببات الهجرة من هذه البلدان لا بد من الإشارة إلى أن العلاقات المسيحية ـ الإسلامية عبر التاريخ تميزت بوجهين:
الأول يمكن أن يوجه كرسالة إلى العالم، تؤكد أن العلاقات المسيحية ـ الإسلامية تاريخيا كانت في المستوى العالي المطلوب، أو بعبارة أخرى، مرت هذه العلاقات من حيث طبيعتها وفحواها في اقنية صحيحة، ما أدى إلى خلق مناخ وطني في كل المراحل خاصة الصعبة منها.
والآخر أن بناة هذه العلاقات المميزة وضعوا أسسا لا تتزعزع لعلاقات أقوى حاضرا ومستقبلا. وقد يكون هذا الوجه الثاني هو الأهم لان صفحة الماضي طويت. وحتى إذا أساء الواحد إلى الآخر تبقى العبر هي الأهم، لأنها تشكل هذا الأساس لرؤية صائبة تتطلع إلى مستقبل أفضل للعيش المشترك بين المسيحيين والمسلمين، فإذا عدنا إلى العلاقات المسيحية ـ الإسلامية بشكل عام لوجدنا أنها ليست حديث العهد.
فالمسيحية ببعض رؤاها ومعتقداتها موجودة في آيات واضحة في القران الكريم. أما حرية وممارسة الشعائر لدى المسيحيين ومكانتهم في المجتمع ودورهم في بنائه، فنجد أن القران يوصي بحماية بيعهم والتشديد على أن ذكر الله هو دائم في صلواتهم، فأمة آمنت بأنها كانت خير امة أخرجت للناس، آمنت بان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو مبدأ أساس لها في علاقاتها مع الأخر.
ومما لا شك فيه أن العلاقات بين المسيحيين والمسلمين لا يمكن أن تكون مميزة إلا على مبدأ المساواة، فالعدالة هي الأساس التي تمنح الحرية الكاملة لكل المؤمنين، والقرآن الكريم بيّن أن المساواة والعدالة بين الناس، ليس فقط في الشعارات التي ينادي بها الناس، وإنما مبدأ أساس من الإيمان الذي أراده لكل الشعوب.
ومجمل القول إن نظرة الإسلام من خلال القرآن الكريم إلى المسيحية واضح، فهو بني على أن "إلهنا وإلهكم واحد"، فإذا كان القرآن الكريم، وهو الأساس في الإسلام، يحث المسلمين على أن يرتبطوا بعلاقات مميزة مع المسيحيين، فهل من أداة أخرى تستطيع أن تغير في رؤية الإسلام إلى المسيحية عبر التاريخ؟
ومما لا شك فيه أن الحروب والأزمات السياسية في منطقة الشرق الأوسط تسهم في تقوية الهجرة كما هو حاليا في الأراضي الفلسطينية المحتلة أو في العراق او سوريا، فإن الذي يحدث حاليا في المنطقة لا يمكن وصفه بهجرة دينية، فهي أصبحت في الآونة الأخيرة هجرة من مناطق الحروب إلى مناطق الأمل أو الملاذ لأماكن آمنة أكثر من الوطن الأم، مثلها مثل هجرة المسلمين الجزائريين منذ الحرب العالمية الأولى والثانية بهدف البحث عن حياة أفضل. لكن الخطر الداهم حاليا هو هجرة تتصاعد منذ عقود في البلدان التي يشكلون جزءا أساسيا من بناها الديموغرافية مثل العراق ولبنان ومصر وفلسطين وسوريا وبلدان أخرى، ومن أسبابها ما جرى من قتل إرهابي ضد المصلين والكهنة في كنيسة سيدة النجاة في بغداد والتي راح ضحيتها ما يقارب ستين قتيلاً بالإضافة لأكثر من مئة جريح، مما حدذا بالمواطنين العراقيين الطلب من الحكومة العراقية اتخاذ الإجراءات اللازمة للحد من العمليات الإرهابية التي تقوم بها جماعات متطرفة ضد المساجد والكنائس. أما في فلسطين فتعتبر سياسة المحتلين الإسرائيليين حيال الفلسطينيين، والمسيحيون منهم خاصة، سببا رئيسا لهجرتهم. وقد تدهورت أعدادهم بشكل لافت في الأربعين عاما التي انقضت.
وكان انخفاض عدد هؤلاء واضحا في المدن والقرى المسيحية او المختلطة مثل القدس وبيت لحم ورام الله. واتجه جزء هؤلاء في البداية إلى البلدان العربية بقصد العمل أو الدراسة او الإقامة المؤقتة، لكن كثيرين منهم غادروا لاحقا إلى بلدان الغرب التي شجع العديد منها هجرة المسيحيين إليها في إطار عملية توطين تمثل جانبا من جوانب حل سياسي لصراع الفلسطينيين مع إسرائيل، علما بان عدد المسيحيين في المنطقة العربية يصل إلى ما بين 12 إلى 15 مليون نسمة غالبيتهم تعيش في مصر. ويتوقع البعض أن يهبط الرقم إلى 6 ملايين بحلول عام 2020 نتيجة موجات الهجرة المتوالية للمسيحيين.
أما نتائج الهجرة المتزايدة فجاءت بفعل التقلبات السياسية لبلدان الشرق الأوسط وما خلفته من آثار اقتصادية واجتماعية دفعت الملايين من مسيحيي المنطقة إلى الهجرة، الأمر الذي أسفر عن مجموعة من النتائج السلبية على حياة المنطقة وبلدانها، مثل التغييرات في البنية الحضارية والثقافية للمنطقة والتي كانت في الأساس منطقة تنوع ديني يعيش فيها المسلمون والمسيحيون واليهود إلى جانب أتباع ديانات أخرى، مزيد من الكراهية على أسس مذهبية وعرقية وفقدان المنطقة جزءا من طاقاتها وقدراتها البشرية والمادية، وهي طاقات تحتاج إليها في عمليه التنمية.
وبغض النظر عن الأوضاع المتأزمة في بلداننا العربية، فإننا بحاجة لنشر ثقافة قبول الآخر واحترامه واستخدام كل الوسائل التربوية والتعليمية والإعلامية والثقافية المتاحة. وهذا يتطلب جهوداً جماعية مشتركة ومنظمة بين المسلمين والمسيحيين، وعمل على ارض الواقع، وعدم الاكتفاء بالخطابات العاطفية، رغم أهميتها، بل يتطلب أيضا تحديث الخطاب الديني وتطويره بحيث يساهم في إعادة اللحمة بين أبناء الوطن الواحد، وإزالة الأحكام والتصورات المسبقة عن الآخر، والسعي للتعلم والفهم عن الأخر.
وفي ضوء ما ذكر أعلاه، فإن هجرة المسيحيين من الشرق الأوسط تسهم في إفقار الهوية العربية وثقافتها وأصالتها.
إذن، لا بد من الحفاظ على الوجود المسيحي في الشرق الأوسط كضرورة إسلامية بقدر ما هو ضرورة مسيحية، وواجب إسلامي بقدر ما هو واجب مسيحي.

ميدل ايست أونلاين

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى