كتب

المسيرة الكبرى: ملحمة الإرادة والدماء في الذاكرة الصينية

كتاب يجمع بين الوثيقة التاريخية والسرد الملحمي والذاكرة الجماعية، فهو شهادة حيّة على واحدة من أعظم التحولات في تاريخ الثورة الصينية.

 

يجمع كتاب “المسيرة الكبرى” للمؤرخ الصيني جيانج تينجيوي بين الوثيقة التاريخية والسرد الملحمي والذاكرة الجماعية، وهو ليس مجرد سجل لمعركة أو لتحرك عسكري قام به الجيش الأحمر في ثلاثينيات القرن العشرين، وإنما شهادة حيّة على واحدة من أعظم التحولات في تاريخ الثورة الصينية، لحظة كان فيها مصير الحزب الشيوعي بأسره معلقاً بخيط رفيع، فإما الانقراض وإما النجاة عبر ملحمة غير مسبوقة.

يبدأ الكتاب الذي ترجمه د.يحيى مختار وصدر عن دار صفصافة بقصيدة لماو تسي تونغ يستحضر فيها أجواء الرحلة الكبرى، فتغدو الكلمات صورة مكثفة عن روح التحدي الذي رافق الجنود “الجيش الأحمر لا يهاب صعاب المسيرة الكبرى ويستخف بآلاف الأنهار والجبال. يرى القمم الجبلية الخمس كانعطافات أمواج خفيفة ويجتاز سلاسل جبال وومنج، كمن يجتاز أكوامًا من الطين! تضرب مياه نهر جينشا صخور المنحدرات الشاهقة، فتبدو له كالبخار الدافئ..”. هذه البداية الشعرية ليست مجرد مدخل بل هي مفتاح دلالي للكتاب بأسره، إذ يصر المؤلف على إبراز المسيرة باعتبارها معركة إرادة بقدر ما هي معركة جغرافيا وجيوش.

يستعيد الكتاب في فصوله الأولى خلفية الحملة الخامسة التي شنها الكومينتانغ بقيادة تشيانج كاي شيك ضد القاعدة المركزية للثوار في جيانغشي. أكثر من نصف مليون جندي منظمين على شكل طوق حصار ضد مقاتلين أنهكتهم الحملات السابقة وفشلت قيادتهم في إدارة المواجهة. يشير الكتاب إلى الأخطاء الاستراتيجية الفادحة التي وقع فيها كل من بوه قو والمستشار الألماني لي ده، إذ أصرّا على حرب المواقع وبناء المخابئ بخامات رديئة في مواجهة مدفعية كثيفة وطائرات، ما أدى إلى سقوط مواقع الجيش الأحمر الواحد تلو الآخر في معركة قوانغتشانج عام 1934. جاء في السرد أن “لم يتسبب سقوط قوانجتشانج في خسائر فادحة للجيش الأحمر فحسب، بل أدى أيضًا إلى تقسيم منطقة القاعدة إلى عدة مناطق صغيرة. لقد تكبد الجيش الأحمر خسائر فادحة لا يمكن تعويضها، وتزايدت قوة العدو وتقلصت قوتنا، مما زاد من صعوبة المعارك اللاحقة”. هذه اللحظة مثلت الانعطافة الحاسمة، فإما الهلاك داخل الطوق أو الانسحاب الاستراتيجي نحو الشمال، وهنا وُلدت فكرة المسيرة الكبرى.

لا يكتفي تينجيوي بسرد الأحداث العسكرية، بل يلتقط تفاصيل إنسانية صغيرة تجعل القارئ يعيش الرحلة. في وصف وداع الجنود لأهالي القرى السوفييتية يلفت “لم يكن لدى جنود الجيش الأحمر وقت للعودة إلى ديارهم، لذلك لم يكن بوسعهم سوى كبت مشاعر الحنين إلى أقاربهم، وإلقاء نظرة صامتة أسفل أقدامهم على تلك الأرض المحررة، التي تم الحصول عليها مقابل الدماء والتضحيات، وتوديع جماهير المنطقة السوفييتية التي قاتلت معهم بشجاعة… ظلوا يلوحون للجيش الأحمر، ينادون عليهم، ويوصونهم مرارًا وتكرارًا: إخواننا جنود الجيش الأحمر، عودوا سريعا بعدما تنتصرون في معركتكم. لا تنسوا منطقتنا السوفييتية!”. هنا تتحول المسيرة إلى فعل وداع جماعي بين مقاتلين يعرفون أنهم قد لا يعودون، وأهالٍ يدركون أنهم يسلّمون أبناءهم للغيب.

أحد أكثر المقاطع مأساوية التي يسردها تينجيوي قصة ماو تسي تونغ وزوجته خه تزهتشن مع طفلهما ماوماو، إذ اضطر إلى ترك الطفل وراءه بسبب القرار بعدم اصطحاب النساء والأطفال في المسيرة، فكان الفراق الأخير الذي لم يعرف بعده ماو وزوجته مصير صغيرهما. يسجل النص هذا المشهد الحارق: “عندما حان وقت المغادرة، انهمرت دموع خه تزهتشن، وحملت ماوماو تقبله مرارًا وتكرارًا… قال الطفل: أمي، لا تذهبي. أمي، لا تذهبي. أخذت تداعبه والدموع في عينيها وتقول: لا تبك يا ماوماو، عليك أن تطيع عمك وعمتك، وعندما ننتصر في المعركة، سآتي أنا ووالدك لاصطحابك معنا”. مثل هذه التفاصيل تضع القارئ أمام كلفة الثورة على المستوى الإنساني، وتجعل الملحمة لا تقتصر على بطولات الجنود في ساحة القتال، بل تشمل مآسي الأمهات والأطفال الذين دفعوا ثمن المسيرة.

يخصص تينجيوي مساحة واسعة لمعركة نهر شيانججيانج، التي شكلت أفظع امتحان للجيش الأحمر. يروي أن الجيش انخفض من 86 ألف مقاتل إلى نحو 30 ألف بعد عبور النهر، حيث تحولت الضفاف إلى ساحة دماء “تناثرت دماء عدد لا يحصى من جنود الجيش الأحمر على جانبي نهر شيانججيانج، وكان بالإمكان رؤية قتلى جنود الجيش الأحمر وهم يعانقون جثث العدو في كل مكان في ساحة المعركة”. هذه المعركة كانت بمثابة إعلان إفلاس القيادة القديمة، ومنها بدأ نجم ماو يسطع باعتباره القائد القادر على إعادة توجيه المسيرة وفق تكتيكات مرنة، تقوم على تجنب المواقع الحصينة وضرب المواقع الضعيفة، والاعتماد على المناورة المستمرة بدل المواجهة المباشرة.

تينجيوي لا يقتصر سرده على الانتصارات العسكرية، بل يبرز لحظات الشقاء والجوع وتجاوز العقبات الطبيعية التي كادت تفني الجيش. من أبرز تلك المشاهد عبور الجبال الثلجية والمستنقعات، حيث يصف “متجاوزًا الأهوال والأخطار، متخطيًا العديد من الجبال الثلجية المغلفة بالهواء منخفض الأكسجين والتي لا يُرى بها أثرٌ للطيور والحيوانات، ومارًّا عبر المجاري المائية المتشابكة، والمروج المائية الشاسعة المغطاة بالبرك والمستنقعات الكثيفة”. مثل هذه الصور تمنح المسيرة بعداً أسطورياً، إذ يبدو الجنود وكأنهم يعبرون تخوماً غير بشرية، يواجهون الطبيعة كما يواجهون العدو.

أيضا يقدم تينجيوي قصصاً فردية تحولت إلى رموز، مثل قصة “سَرية رعاية الكوادر” التي كانت تضم كبار القادة المصابين وكبار السن والنساء. نقرأ أن تشو إن لاي حذر قائدها خه تشانجقونج، قائلاً “هؤلاء، كبار السن، هم الثروة الثمينة لحزبنا، يجب أن تكون مسؤولا تمامًا عن سلامتهم. لو وصلوا بسلام وكذلك أنت أيضًا، فتلك بهجة كبرى؛ ولو وصلوا بسلام ولم تصل أنت، سأمنحك رتبه شهيد، وإذا وصلت بدونهم، سأقطع رأسك!”. في هذه السخرية السوداء يبرز حجم المسؤولية، حيث كان الحفاظ على حياة القادة القدامى مسألة وجودية للحزب كله. كما تروي الصفحات بطولة خه تزهتشن حين ارتمت بجسدها فوق جريح لحمايته من قصف الطائرات، لتصاب بأكثر من اثني عشر جرحاً. هكذا تُبنى صورة المسيرة باعتبارها مسيرة من اللحم والدم، حيث يتجسد الشعار القائل بأن “المثل الثورية تسمو فوق كل شيء”.

من اللحظات البارزة أيضاً تسلق الجنود للكابلات الحديدية للسيطرة على جسر لودينج، وهي صورة بقيت محفورة في الذاكرة الصينية كدليل على الجرأة والتضحية. يصف تينجيوي “كيف أن الجنود تسلقوا الجسر تحت وابل من النيران، فيما كانت زميلتهم تساي تشانج تغني لتشجيعهم عند مقدمة الجسر. مثل هذه المشاهد تجعل المسيرة الكبرى أقرب إلى ملحمة شعبية تتناقلها الأجيال”.

ولا يغفل تينجيوي عن إظهار علاقة الجيش الأحمر مع القوميات المحلية في طريقه، مثل قومية يي، حيث عقد “تحالف ييهاي” بقيادة ليو بوهشنج، وانضم أبناء القوميات إلى الجيش في كفاحه. مؤكدا أن المسيرة لم تكن مجرد انتقال جغرافي، بل كانت فعل دمج قومي واجتماعي، كرّس قاعدة شعبية واسعة للحزب في مناطق نائية لم تصلها الثورة من قبل.

إلى جانب التضحيات والمعارك، يسجل تينجيوي تفاصيل الحياة اليومية للجنود. قصص عن “كيس الطعام الجاف”، و”أربع إبر خياطة”، و”الطاهي ران نانلاي الذي دفن في الأراضي العشبية”، كلها شذرات تبدو بسيطة لكنها تصوغ صورة إنسانية متكاملة للمسيرة، حتى المرضى والجرحى وحاملو النقالات كانوا جزءاً من القافلة، يسيرون رغم الجروح، مؤكدين أن الإرادة الجمعية أقوى من الألم الفردي.

إنه يعرض أرقاماً دقيقة لمسافات المسيرة، ستين ألف لي عبر أربع عشرة مقاطعة، ومعارك تتجاوز ستمئة مواجهة، لكنه في الوقت ذاته يقف عند دمعة أم، وصرخة طفل، وجرح جندي. ليعيد تقديم الثورة الصينية كفعل معاناة ودماء بقدر ما هو فعل استراتيجية وسياسة. لذا فإن “المسيرة الكبرى هنا ليست فقط إنجازاً عسكرياً أنقذ الحزب الشيوعي من الفناء، بل هي أيضاً طقس تأسيسي لصناعة الهوية الوطنية الصينية الحديثة، ورمز خالد على قدرة الإنسان على تحويل الهزيمة إلى انتصار”.

إن تينجيوي يقدم المسيرة الكبرى باعتبارها نصاً تأسيسياً للثورة الصينية. ماو نفسه وصفها بأنها “بيان، وفرقة إعلامية، ومَبذرة”. البيان بمعنى الإعلان عن وجود الحزب رغم كل شيء، الفرقة الإعلامية لأنها جذبت أنظار الصين والعالم، والمبذرة لأنها زرعت بذور الثورة في أماكن لم تصلها من قبل. ومن هنا نفهم لماذا اعتبر تينجيوي أن “روح المسيرة الكبرى تجاوزت الزمان والمكان، وسارت نحو العالم، وأصبحت ثروة روحية ثمينة مشتركة للبشرية جمعاء”.

يُختتم تينجيوي  الكتاب برسالة موجهة إلى الشباب الصيني، الذين يعتبرهم مستقبل الجمهورية، داعياً إياهم إلى دراسة التاريخ وتوريث الجينات الحمراء، ليس بوصفها جينات دموية، بل كرمز للعزيمة والإيمان، ويضيف “عليكم أن تدرسوا بجد، وتستمروا في النمو والتقدم، وتتوارثوا الجينات الحمراء، وتعززوا روح المسيرة الكبرى للجيش الأحمر، وتتقنوا وترفعوا مستوى المعارف الحديثة؛ لتساهموا بذكائكم وحكمتكم في تحقيق حلم الصين المتمثل في النهضة العظيمة للأمة الصينية على طريق المسيرة الكبرى الجديد”. هنا ينغلق قوس النص من الماضي إلى المستقبل، إذ تصبح المسيرة الكبرى ليست ذكرى بعيدة وإنما طريقاً رمزياً للنهضة.

ميدل إيست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى