المصالحة التركية- السورية.. بوتين مع من؟
للرد على هذا السؤال علينا أن نرى الصورة بحقيقتها من مكاسب روسيا في العلاقة مع كل من سوريا وتركيا بانعكاسات ذلك على حسابات موسكو الإقليمية والدولية.
فروسيا التي أصبحت طرفاً رئيسياً في الحرب السورية اعتباراً من نهاية أيلول/سبتمبر 2015 حققت بذلك تفوقاً نفسياً بالمعايير العسكرية على واشنطن وعواصم الحلف الأطلسي بعد أن حشدت ما يكفي من قواتها البحرية والجوية في قاعدتي حميميم وطرطوس اللتين تطلان على البحر الأبيض المتوسط، المهم جداً بالنسبة للغرب والكيان الصهيوني، لأسباب عديدة. منها الغاز الطبيعي الذي تم اكتشافه شرق البحر المذكور وفي جوار قبرص وإسرائيل ومصر ولبنان وسوريا.
كما كان الوجود العسكري الروسي في سوريا عنصراً مهماً ومؤثراً في تطورات العلاقة الاستراتيجية بين موسكو وطهران بانعكاسات ذلك على لبنان والعلاقة مع حزب الله وحماس والفصائل الفلسطينية المحسوبة على جبهة المقاومة.
بالمقابل فإنّ لروسيا علاقات متشابكة جداً مع تركيا بدأت بعد أن اعتذر الرئيس إردوغان في حزيران/يونيو 2016 من الرئيس بوتين عن إسقاط الطائرة الروسية قرب الحدود السورية مع تركيا من قبل الطائرات التركية في 24 تشرين الثاني/نوفمبر 2015. وكان هذا الاعتذار ومن بعده قمة بوتين-إردوغان في بطرسبورغ في 9 آب/أغسطس 2016 كافياً لإعطاء الضوء الأخضر الروسي لدخول القوات التركية إلى جرابلس ومنها إلى باقي مناطق الشمال السوري في 24 آب/أغسطس.
ولحقت بذلك إضاءات مماثلة للعمليات العسكرية التركية في عفرين في كانون الثاني/يناير2018 ثم شرق الفرات في تشرين الأول/أكتوبر 2019. وكان كل ذلك نتاج اللقاء الأول بين بوتين وإردوغان الذي وضع قواعد العلاقات المتشابكة بينهما على الصعيدين الشخصي والعام حيث التقيا منذ ذلك التاريخ أكثر من 23 مرة وتحدثا هاتفياً أكثر من ذلك بكثير.
ويمكن تلخيص هذه العلاقات بعناوينها الرئيسية كما يلي:
1- تستورد تركيا حوالى 50% من استهلاكها من الغاز الطبيعي من روسيا.
2- يزيد حجم التبادل التجاري بين البلدين عن 25 مليار دولار حيث تصدّر تركيا حوالى عشرين نوعاً من منتجاتها الزراعية إلى روسيا وتستورد منها الأسمدة والقمح والذرة والحديد وبعض المعادن الأخرى.
3- يعمل في روسيا حوالى 150 ألف تركي في مختلف القطاعات فقد نفذت وتنفذ الشركات التركية ما قيمته عشرات المليارات من الدولارات في مشاريع البناء في عموم روسيا.
4- تستمر الشركات الروسية في بناء المفاعل النووي قرب مدينة مرسين على الأبيض المتوسط بقيمة 30 مليار دولار، وهناك اتفاق مبدئي لبناء مفاعل نووي آخر قرب مدينة سمسون على البحر الأسود.
5- يزور تركيا سنويا حوالى 6 ملايين سائح روسي، وقد اشترى 61 ألفاً منهم المساكن في تركيا خلال هذا العام فقط وحملوا معهم مليارات الدولارات عندما دخلوا تركيا من دون أي مساءلة أو مضايقات جمركية أو مالية.
6- تحدثت المعلومات الأسبوع الماضي عن قرار استثنائي من الرئيس بوتين لتأجيل ديون تركيا المستحقة من الغاز الطبيعي إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية وهي بقيمة 20 مليار دولار واعتبرت أوساط المعارضة ذلك دعماً روسياً لإردوغان عشية الانتخابات الرئاسية.
7- لا تلتزم تركيا بالعقوبات الأميركية والأوربية على روسيا على الرغم من استنكارها “للعدوان الروسي على أوكرانيا” ورفضها قبل ذلك ضم شبه جزيرة القرم. وسبق للرئيس إردوغان أن وقّع قبل ذلك على العديد من اتفاقيات التعاون العسكري مع كييف، وباعت أنقرة لها الطائرات المسيرة التي ألحقت أضراراً بالغة بالقوات الروسية في بدايات الحرب، كما دعمت أنقرة حكومة الوفاق والفصائل الإسلامية في ليبيا التي كانت تقاتل قوات خليفة حفتر المدعومة من مجموعة واغنر الروسية. ومن دون أن تبالي أنقرة طيلة الفترة الماضية بالضغوط الروسية عليها في موضوع إدلب التي يحتلها الآلاف من مواطني روسيا من الشيشان وداغستان، إضافةً إلى الآلاف من مواطني الصين المسلمين وهم من أصل تركي أيضاً.
8- على الرغم من إعلانها إغلاق المضائق بناءً على اتفاق مونترو لعام 1936 فقد سمحت أنقرة لقطع الأسطول الحربي الروسي الموجودة خارج البحر الأسود بالعودة إلى موانئها في البحر المذكور. كما أنها منعت أي سفينة حربية تابعة للدول غير المطلة على البحر الأسود من العبور عبر المضائق. وبإعلانها أمام السفن الروسية قد تجد روسيا في وضع صعب جداً مع التذكير أنّ معظم الحروب بين روسيا القيصرية وتركيا العثمانية منذ العام 1600 كان بسبب هذه المضائق وموانئ البحر الأسود.
ويرى الكثيرون في كل هذه المعطيات المتداخلة محاولة من الرئيس بوتين لكسب إردوغان إلى جانبه في تحدياته للغرب الأطلسي حتى لو كان ذلك مقابل غض النظر على الوجود التركي في الشمال السوري، وإنشاء القواعد التركية في أذربيجان، والسعي لإقامة علاقات تحالفية مع الجمهوريات الإسلامية ذات الأصل التركي في آسيا الوسطى. وهو ما يرى فيه بعض المحللين الروس خطراً على المصالح الروسية الاستراتيجية في هذه الجمهوريات التي ترى موسكو فيها حديقة خلفية لها إذ لكازاخستان وحدها 6800 كم من الحدود البرية مع روسيا.
وتضع هذه المعطيات المتشابكة الرئيس بوتين أمام امتحان صعب جداً لتحقيق التوازن في علاقاته مع الرئيسين الأسد وإردوغان ومن دون أن يكون واضحاً إلى أيهما يميل. فلولا الأسد لكانت روسيا الآن في وضع أصعب بكثير في حربها مع دول الأطلسي، وبالمقابل لولا بوتين لكانت سوريا في وضع لا تحمد عليه أبداً ليس فقط عسكرياً بل سياسياً أيضاً. فقد تصدت موسكو ومعها بكين لمؤامرات الدول الإمبريالية وحليفاتها الإقليمية بما فيها العربية التي سعت إلى إقناع واشنطن للتدخل العسكري ضد سوريا، كما فعلت ذلك في ليبيا وعبر قرارات مجلس الأمن الدولي. وكان للرئيس إردوغان -وما زال- دور أساسي في أحداث ليبيا كما هو في سوريا بدعم من العواصم العربية المتآمرة على دمشق دائماً وجينياً.
والآن وبعد أن نجح في إقناع دمشق وأنقرة بضرورة الحوار ثم اللقاءات المباشرة ومن دون أن يكون واضحاً مقابل ماذا بالنسبة للطرفين، يجد بوتين نفسه أمام امتحانه الأصعب لكثرة الأطراف التي تراقب تحركاته وتسعى إلى عرقلة ذلك، ليس فقط أميركياً وأوروبياً بل أحياناً عربياً وإسرائيلياً وعبر القنوات المباشرة وغير المباشرة، ومنها قسد ووحدات حماية الشعب الكردية التي قد تصبح الهدف المشترك للمصالحة النهائية بين إردوغان والأسد. وقد يدفع ذلك الوحدات المذكورة وبتشجيع واشنطن إلى مغامرات خطيرة لعرقلة هذه المصالحة بما في ذلك إخلاء سبيل الآلاف من “الدواعش” وعائلاتهم وإرسالهم إلى جبهات القتال ضد تركيا وسوريا.
وذلك سيحتاج من الرئيس بوتين استنفاراً تاماً لكل إمكانياته لإقناع إردوغان بضرورة الاستعجال في تلبية الحد الأدنى من المطالب السورية، مع العلم أن قبولها لم ولن يكون سهلاً مع اقتراب موعد الانتخابات التشريعية والرئاسية والرأي السائد في تركيا بأن بوتين يريد لإردوغان أن ينتصر فيها. وقد يكون ذلك صحيحاً لأنّ تشجيع الرئيس إردوغان للمصالحة مع الأسد حتى لو كان ذلك وفق شروط الثاني فسوف يضمن له تأييد نسبة معينة (اثنين -خمسة%) من أصوات الناخبين الذين تبيّن الاستطلاعات أنهم الآن ضد سياسات إردوغان في سوريا، والسبب الرئيسي في ذلك هو أزمة اللاجئين السوريين في تركيا.
ويعرف الجميع أن المعارضة ستستغلها في حملتها ضد إردوغان في حال تأخره أو فشله في مساعيه للمصالحة مع الرئيس الأسد، وصورتهما وهما يتصافحان ستكون كافية لمزيد من الدعم الشعبي لإردوغان. وهو ما يسعى إليه مع اتهام المعارضة له بالمماطلة لأن تلبية الشروط السورية لم ولن تكون سهلة بالنسبة لإردوغان، وأهمها سحب القوات وكل الأجهزة والمؤسسات والفعاليات التركية من الشمال السوري والسماح للجيش السوري باجتياح إدلب والقضاء على النصرة، وأخيراً وقف أنواع الدعم المسلح والسياسي كافة لما يسمى بالجيش الوطني السوري الذي تأسس في أنقرة صيف 2019.
لتبقى أزمة اللاجئين القضية الأسهل بالنسبة لإردوغان لأن حلها يحتاج إلى فترة زمنية طويلة قد تبدأ بعد الاتفاق على إعادة إعمار ما دمّرته الحرب وهو ما سيسعى إردوغان من أجله كي يكون للشركات التركية حصة الأسد فيها. طالما أن تركيا الأوفر حظاً بسبب الجغرافيا وتجربة الشركات والتكنولوجيا التركية التي تنافس الدول الأخرى في مجالات مختلفة. وهو الموضوع الذي قد يستغله إردوغان في حال بقائه في السلطة لأن الشركات التركية وحركة التجارة مع سوريا وعبرها مع دول المنطقة ستحقق أرباحاً كبيرة جداً لتركيا خلال المرحلة المقبلة.
وقد يدفع ذلك إردوغان لتقديم بعض التنازلات إلى الرئيس الأسد، أولاً لضمان بقائه في السلطة، وثانياً للحصول على المزيد من المساعدات المالية من روسيا ودول الخليج. ويبدو أنها جميعاً مع بقائه في السلطة، وهذا هو حالها مع الرئيس الأسد، هذا بالطبع إن كان الجميع صادقاً في مقولاته أو تصرفاته من أجل إعادة ترتيب أمور المنطقة. وهو ما أشك به أنا شخصياً وإلا كيف سيتم إقناع الكيان الصهيوني بحكومة نتنياهو الإجرامية بالترتيبات الجديدة التي تريد لها تل أبيب أن تكون في خدمتها فقط جملة وتفصيلاً!
الميادين نت