‘المصير’ .. يعيد نفسه في زمن الثورات العربية (رضاب فيصل)
رضاب فيصل
"الأفكار لها أجنحة ما حدش يقدر يمنعها من أنها توصل لعقول الناس".
هذه الجملة قالها الممثل المصري نور رالشريف أثناء أدائه لدور العلامة ابن رشد في فيلم "المصير" من إخراج الراحل يوسف شاهين. وهي ذاتها تنطبق على الواقع الراهن للمجتمعات العربية التي نادت بالثورة على السلطة المستبدة وما كان لها إلا أن تجد نفسها بين أحضان المتطرفين والمتشددين من الإسلاميين والإخوان المسلمين.
تأتي المحاكاة بين الفيلم والواقع المعيش من أنّ "المصير" تحدّث عن تلك الحقبة من الزمن التي حاولت فيها "الطوائف" في الأندلس ـ وهو الاسم الذي تمّ إطلاقه على الجماعات الدينية التكفيرية والمتشددة ـ الاستيلاء على عرش الأندلس متخذةً الدين وسيلة لتحقيق غاياتها. فما كان منها إلا أن تسيطر على عقول الناس من خلال بعض المفاهيم التي يتبرأ منها الإسلام أصلاً، والتي اتخذت منها مسوّغاً لبسط الجهل وبالتالي التفرّد بالسلطة دون أية مشاكل.
عبر عدة وسائل تنصّب "الطوائف" نفسها كوسيط بين الله والإنسان على الأرض، مع أنّ الإسلام الحقّ قد ألغى هذا النوع من الوساطة معتبراً أنّ لا أحد يمكنه أن يفصل بين الروح الإنسانية والذات الإلهية جاعلاً العلاقة ما بينهما مباشرة لا يعوقها شيء. خاصةً وأنّ الذي يدّعي الوساطة ما هو إلا بشر لا يميّزه عن غيره شيء، فالكل من خلق الله.
محاربة الفنون بأنواعها هي أساس ما تسعى إليه "الطوائف"، ذلك أنّ الفنّ يمكنه أن يرقى بالإنسان غلى مستويات متقدمة من التفكير والتحليل المنطقي للأشياء والشخصيات، ويطرح مفاهيم تتطلب التفكير والتخيّل، الشيء الذي يحارب مشروع التيارات الإسلامية المتعصبة في فرض سيطرتها على الآخر الضعيف الذي يستسلم لأية قرارات أو تشريعات قد يفرضها البعض باسم الدين، معتبرةً الفن وسيلة لتنشيط العقل والذهن.
بدوره يجسّد الفنان محمد منير الاتجاه الثقافي والفني في ذلك الوقت وفي وقتنا الحالي، متخذاً من صوته وسيلة تعبير نحو الحرية والعشق اللذين لا يمكن أن يتعارضا مع الولاء لله سبحانه. إلا أنّ الطوائف المتشددة في الفيلم لم تجد حلاً غير قتله بعد أن حاولت إخفاء صوته، ظناً منها أنها بذلك تطفئ شرارة التفكير والثقافة، لكن وكما يذكر التاريخ دائماً، أخفقت في غايتها فالأفكار تملك من الأجنحة ما يجعل الآخر عاجزاً أمام منعها من الوصول لعقول الناس.
لم تكتفِ الطوائف بقتل الفن، بل ذهبت إلى القضاء على صوت الإسلام المعتدل والحقّ المتمثل فيما يكتبه العلامة ابن رشد. وكان تشويه صورته أمام الناس المضللين فكرياً ودينياً، أفضل وسيلة لإقصائه وإبعاده عن مكانه داخل الدولة والمجتمع. تماماً مثلما يحصل اليوم مع بعض أعلام الفكر والثقافة. هي إذاً وسيلة ممنهجة يتخذها من يشبه طوائف الأندلس في غاياتهم وأخطائهم للوصول إلى السلطة، حيث القوة وامتلاك زمام الأمور والمواطنين.
من جهةٍ أخرى فإن ابن رشد وإذ يمثّل الإسلام الصحيح، فإنه في نفس الوقت يعطي صورة مشرقة عن التاريخ العربي في أكثر عصور العرب نهضةً في حين كانت أوربا تقع تحت الظلام الفكري والثقافي، مما اضطر كثير من الأوربيين إلى الذهاب باتجاه بلاد الأندلس للدراسة والتعلّم. على العكس مما يحصل اليوم في بلادنا.
عند هذه النقطة بالذات وقف يوسف شاهين في "المصير"، ولا بد لنا أن نقف عندها الآن وهنا. فما الذي جعل من تلك الحقبة من الزمن مصدر نهضة، وتاريخ مشرق بالنسبة للمسلمين، وما الذي جعلها مصدر بؤس وتخلّف بالنسبة للأوربيين. المشكلة الحقيقية تكمن في سيطرة رجالات الدين من المنافقين على المجتمع، أولئك الذين يدعون تملكهم الكلي لمفاهيم الأديان، سواء كانوا من الكنيسة في أوربا أو من الإسلام في بلاد المشرق العربي المسلم.
ما يثير التساؤل وربما الامتعاض، أنّ أولئك الذين يدّعون الإسلام، لا يمنعوا أنفسهم من قتل من حرم الله قتلهم بغير الحق. خاصةً وإن كان هذا القتل يسهم في تعزيز سيطرتهم وفي وصولهم نحو غاياتهم غير المشروعة.
في فيلم "المصير" ينتفض الشعب ضد الطوائف بعد أن عرفوا مدى تصرفات شخصياتها غير المنطقية والتي لا يحملها عقل ولا دين. كان مشهد النهاية ثورة حقيقية، انتفض فيها الناس لأجل ابن رشد، لأجل العلم والثقافة والحرية مؤكدين أنّ المصير وكما غنى محمد منير لا يمكن أن يكون إلا باليد، لا يمكن أن يكون بيد الآخر.
فهل نتطلع إلى ثورة حقيقية في عصرنا الراهن، تكون ثورة مستمرة لتلك التي سبقتها، ثورة على كل من يقصي حرية التعبير ويتخذ من تكفير الآخرين وسيلة للتفوق والسلطة.