“المطر الأصفر” علاقة الأرض بالبشر
ماذا تفعل الحروب بالمكان؟ هل يموت البشر في الحروب وينتهي الأمر؟ أم من الممكن أن يموت المكان أيضا؟ هل من الممكن أن نطلق مسمى “وطن” على حيز مكاني يخلو من البشر؟ هل من الممكن أن يخلد “الوطن” وهو خال من المواطنين؟
رواية “المطر الأصفر” للروائي الإسباني خوليو ياماثاريس، وعلى غير المعتاد، لم تتناول الموضوعات التقليدية التي ألفها القارئ، لكنها تناولت موضوعا قد يكون غريبا على المخيلة العربية، التي ما إن تأتي سيرة الأدب المكتوب باللغة الإسبانية حتى يتبادر إلى الذهن الواقعية السحرية والموشحات الأندلسية وقصص الحرب والحب، وتبرز أعمال دول أميركا اللاتينية، على الأدب المكتوب في إسبانيا نفسها.
ولكن، في “الموت الأصفر” يتحدث الشاعر والروائي الإسباني خوليو ياماثاريس عن الموت، ليس موت الأشخاص كما حدث في الأعمال التي تناولت الحرب الأهلية في إسبانيا (1936-1939) التي راح ضحيتها قرابة مليوني شخص بين قتيل ومفقود، خلال حكم الجنرال فرانكو (1936-1974)، لكنه يتحدث عن موت المكان بموت أو رحيل من يعيشون فيه.
حيث تموت قرية “أينيلي” موتا حقيقيا وليس مجازيا، كلما غادرها أحد من سكانها بحثا عن فرص أفضل للحياة سواء في المدن الكبرى في إسبانيا، أو بالهجرة إلى أوروبا، أو كلما مات من سكانها أحد. كانت القرية تفقد روحها كلما نقص فرد منها، فكلما مات فرد مات معه بيت، ومات معه جزء من القرية.. يراقب البطل ما يجري لقريته، ويتأمل أبواب البيوت الصامتة، ويقرر أن يحافظ على البيوت المهجورة، ربما عاد أصحابها يوما، ويصارع كل الظروف كي تظل قريته على قيد الحياة مادام هو على قيد الحياة، إلى أن يرحل هو الآخر.
الطبيعة القاسية التي تفرض نفسها على قرى الشمال الإسباني خلال أشهر الشتاء الطويلة ساهمت في فرض كآبتها على العجوز وسابينا تدور أحداث الرواية في قرية “أينيلي” الجبلية التي تقع في مرتفعات جبال البرانس، ومن خلال مونولوج طويل يتحدث السارد عن تاريخ موت كل بيت ورحيل كل شخص عن القرية، إلى أن تموت “أينيلي” نفسها بموته في النهاية. فبعد أن هجر البيوت أصحابها، لم يتبق في القرية إلا الراوي وزوجته سابينا، وكلبته العجوز.
ويصف لنا تفاصيل الحياة القاسية التي كان عليه أن يعيشها بعد أن ماتت ابنته، وبعد أن انقطعت أخبار ابنه الأكبر “كامليو” الذي ذهب إلى الحرب الأهلية ولم يعد، وأخيرا حالة الوحدة القاسية التي عاشها بعد أن هاجر ابنه “أندريس” إلى ألمانيا.
الطبيعة القاسية التي تفرض نفسها على قرى الشمال الإسباني خلال أشهر الشتاء الطويلة ساهمت في فرض كآبتها على العجوز وسابينا التي أدركت أنه برحيل أندريس، ذهب معه كل أمل في الحياة: “رحيل أندريس لم يكن رحيل ابن فقط، فمع أندريس رحلتْ آخر إمكانية لاستمرار الحياة في هذا البيت، الأمل الوحيد في المساعدة والرفقة، سابينا وأنا، كنا نعرف أن ساعتنا قد اقتربت، لذلك عندما أغلق أندريس الباب خلفه، وابتعد تحت مطر ذلك الفجر في هدوء وصمت، متخذاً طريق المهربين القديم، عاد شبحا سارة وكاميلو إلى البيت ليملآ الفراغ الذي تركه أندريس”.
تفشل سابينا في تحمل الحياة، فتنزوي على نفسها، تجوب طرقات القرية صامتة في الصباح الباكر، تعيش مع ذكريات الماضي، ثم تضع نهايتها بيدها في طاحونة القرية، تشنق نفسها بحبل، هذا الحبل سيكون رفيق زوجها بعد ذلك، يربطه حول جسده وكأن زوجته تجسدت في هذا الحبل. وكي يقوم بدفنها، كان عليه النزول إلى أقرب قرية “بيربوسا”، لطلب المعونة للقيام بطقوس الموت. بعد ذلك يشغله أمر وحدته التي ستفرض نفسها عليه، ولن يعرف بنبأ موته أحد، ليقوم بدفنه.
ويبقى الراوي وحيدا مع كلبته، يجوبان القرية، يتفقد معها المنازل، يصلح من شأن الأسيجة والأحجار، لتبقى القرية على قيد الحياة. أدرك أن بقاء حياته مرتبط بحياة كل حجر في مكانه، وفي الوقت الذي تموت فيه الأحجار، سيكون موته هو أيضا: “رغم جهودي في الحفاظ على الأحجار حية، إلا أن الواقع يؤكد أن أينيلي قد ماتت”.
كان من عادته، بيع الجلود للقرى المجاورة، أو مقايضتها ببعض لوازم البيت التي يدخرها لأوقات الشتاء العصيبة حينما تغطي الثلوج القرية وتضربها العواصف وتغلق كل الطرق، ثم تباعدت زياراته، وتوغل شعوره بالوحدة، حتى ظن الناس أنه فقد عقله، وأخذوا يتجنبونه عندما ينزل إلى قريتهم. وأصبح همه الأكبر حراسة البيوت المتهالكة، ومنع اللصوص من السطو على ممتلكات جيرانه، وعند تفقده لبعض البيوت، يلدغه ثعبان وبمفرده يواجه الحمى وغياب الوعي لأيام، ولم تغادره كلبته، بل قامت بلعق جسده للتخفيف من الحمى.
يبدأ في الانسحاب من الحياة عندما يصبح وعيه بالموتى أكبر من علاقته بالبشر، فيرى أمه الراحلة منذ أربعين عاما، وزوجته، ويسمع صوت ابنته الصغيرة، ويرى العائلة تتجمع حول نار المدفأة كل ليلة في بيته. ويزداد وعيا بقرب موته، عندما يطغى اللون الأصفر على كل شيء، لتتكرر كلمة “أصفر” أكثر من خمس وعشرين مرة يصف بها المطر، الضوء، والهواء، وأوراق الشجر، وصورة سابينا، والليل، والنافذة، وعينيه ونظراته، والتفاح، والجمر، وبيوت القرية، والزمن نفسه يصفه بأنه مطر أصفر، ظله وظل كلبته أصفر، وكل شيء من حوله تحول إلى اللون لأصفر. عندما يدرك أن موته أقرب إليه من كلبته الرابضة تحت قدميه، يحفر قبره بجوار قبري ابنته وزوجته كي لا يقوم أحد بدفنه بعيدا عنهما.
حالة الوحدة الشديدة خلقت مجموعة من العلاقات بين الراوي وعناصر الحياة من حوله، لم يفرق عنده حجر ظل صامدا في بيت، عن روح تسري في جسد كلبته التي لم تتخل عنه، وبقيت معه في حين رحل ابنه أندريس ولم يتذكره إلا بعد أن تزوج وأنجب ولدين، ولم يفعل أكثر من إرسال صورة تحمل إهداء لأمه ولكن بعد أن تكون قد أنهت حياتها بالفعل. علاقة الراوي الحميمة بكلبته جعلته يشفق عليها من تركها تعاني الوحدة والجوع إلى أن تموت، فيقتلها بآخر رصاصة معه رحمة بها. ويبقى هو على سريره يواجه الباب، ينتظر لحظة موته، لا يعرف متى يكتشف أحدهم موته ويقوم بدفنه قبل أن تأكله الطحالب التي بدأت تغزو جدران منزله.
السرد في الرواية سرد دائري، حيث تبدأ الرواية بمشهد على لسان الراوي وتنتهي به، حيث نجد وصفا للقرية الجبلية “أينيلي” وطرقها الوعرة، والحال الذي سيكون عليه عندما يعثرون عليه مصادفة بعد عشر سنوات كاملة قضاها في وحدته بعد وفاة سابينا: “لذلك لن يجرؤ أي منهم على الإشارة بعلامة الصليب أو ما يشير إلى التقزز، لأن البطاريات ستعثر علىّ خلف هذا الباب، ممدداً على السرير، بكامل ملابسي، أواجههم بنظراتي، وقد أكلتني الطحالب والطيور”.
في نهاية الرواية يكمل الراوي المشهد بقوله: “ودون أن يضيعوا لحظــة واحدة، يذهب بعضهم للبحث عن ألواح خشبية في البيوت – ألواح محطمة، مخلوعة، ينزعونها من الأبواب والطوابق – بينما يعود الباقون إلى هنا لحملي إلى المطبخ ملفوفاً في بطانية. لن يظل هناك أكثر من الوقت المطلوب لتجهيز الصندوق، من المؤكد أنني لن أنتظر حتى يأتي باقي سكان بيربوسا، لأنه لم يخبرهم أحد، ولن يتذكروا طلب القس من قرية أوليبان ليصلي عليّ صلاته الأخيرة، عندما يكون الصندوق جاهزاً، سيحملونني على أكتافهم في صمت، ويسيرون في الشوارع المسكونة بالشجيرات والحشائش إلى أن يصلوا إلى المقبرة، والقبر الذي حفرته هذا الصباح إلى جوار سابينا وابنتي، دون أن يؤدوا أي صلاة، يهيلون التراب بالجاروف الذي تركته هناك، في تلك اللحظة سيكون كل شيء قد انتهى بالنسبة لي ولـ أينيلي”.
وكأن زمن السرد في الرواية لم يتعد ليلة واحدة تخللتها مجموعة من الاسترجاعات صنعت تاريخ قرية “أينيلي” وقصتها قبل أن تموت تغلب شاعرية اللغة على أسلوب السرد في الرواية، فكاتبها خوليو ياماثاريس شاعر دخل عالم الرواية من بوابة الشعر، ويعتبر واحدا من أفضل الكتاب الإسبان الذين ظهروا خلال سنوات الثمانينيات، وهو ليس أول الشعراء الإسبان الذين كتبوا الرواية ولن يكون آخرهم، فهناك غيره من الشعراء مثل آنا ماريا مويس، وآنا ماريا ناباليس، وأنطونيو كوليناس، وبينتيس رييس وكلارا خانيس.. لكن تميز ياماثاريس، باهتمامه بالبشر أنفسهم، فلم تشغله سرد أحداث الحرب نفسها مثل غيره، ولكن كان وقعها على البشر محور اهتمامه في “المطر الأصفر” وقبلها في روايته الأولى “قمر الذئاب” عام 1985.
من اللافت أن المقدمة التي كتبها مترجم الرواية، والمتخصص في الشئون الإسبانية د. طلعت شاهين، من الأهمية لفهم الأجواء الحقيقية التي دفعت خوليو ياماثاريس إلى كتابة “المطر الأصفر” فقريته نفسها تعرضت للموت، ويذكر لنا المترجم مزيدا من التفاصيل عن ماهية موت المكان بقوله:
“… فإسبانيا كانت حتى وقت قريب تتميز بانتشار قراها الصغيرة على طول الخارطة وعرضها بشكل غريب، وبعض هذه القرى لا يزيد عدد سكانها على عدد أصابع اليد الواحدة. بعض هذه القرى تآكل حجمها، وأصبحت من الصغر، بحيث أن بعضها كان يسكنها عدد لا يزيد عن عدد أصابع اليد الواحدة، وأذكر أنني زرت قرية في أحد الجبال القريبة من العاصمة مدريد، ولم أشاهد فيها سوى عمدتها ونائب العمدة وهي زوجة العمدة نفسه، والخفير الذي يحرس البيوت الخالية إلا من الكلاب الضالة، وكلهم تخطوا العقد السابع أو الثامن من أعمارهم، هذه القرى تتوارى الآن وتموت في صمت إلى أن يتم محوها من على الخريطة دون أن يدري بها أحد، وتتحول إلى مجرد ذكرى على لوحة صغيرة تتآكل أطرافها مع مرور الزمن”.
“المطر الأصفر” التي صدرت في ثلاث طبعات في مصر، وفي الأردن ضمن مشروع مكتبة الأسرة، رواية تخبرنا أن “الأرض” تظل أرضا، ولكنها لا تكتسب مسمى “الوطن” إلا لو عاش عليها “مواطنون” فإن غادرها المواطنون، مات المسمى، وبقيت الأرض.
ميدل إيست أون لاين