المعارضة المصرية: نظرة ثانية (توماس كاروثرز)
توماس كاروثرز
حالما تُذكر المعارضة السياسية في مصر في أي تجمع يناقش السياسة الخارجية في واشنطن، تُواجِه في الغالب كورساً من السخط والرثاء. وكما كتب جيمس تروب مؤخراً فإن "نظرة الإدارة الأميركية إلى المعارضة تشبه نظرة الجميع إليها تقريباً، فهي ضعيفة وعاجزة وكسولة وغير منظّمة، ويسعدها أن تتجهّم في القاهرة أكثر من أن تقوم بحملة انتخابية في الريف المصري". وفي الشهر الماضي، أشار توماس فريدمان إلى ضعف المعارضة في مصر باعتباره إحدى أكبر مفاجأتين في فترة مابعد الربيع العربي.
يتضمّن هذا الرأي التحليلي تهماً رئيسة عدة. فقادة المعارضة في مصر هم نخب تتمركز في القاهرة ممن لايمكن أن يكلفوا أنفسهم عناء تكريس الوقت والطاقة الضروريين لبناء قواعد شعبية وشبكات حزبية مستدامة. إذ هم حفنة منقسمة ومتخاصمة، يكرسون الكثير من الوقت لتشكيل وإعادة تشكيل عدد كبير من الأحزاب الصغيرة بدل أن يتحّدوا في بضعة أحزاب كبيرة. وقد فشل قادة المعارضة في طرح مقترحات ملموسة لحل المشاكل الملتهبة في البلاد، ولاسيما الوضع الاقتصادي الخطير. ويعيد مسؤولون ومحللون وصحافيون أميركيون هذه الانتقادات مراراً وتكراراً، حيث يشددون على تعليقاتهم هذه في كثير من الأحيان من خلال تنهّدات مسموعة تعبّر عن مدى إحباطهم.
تُبرِز هذه اللازمة الدائمة والمؤلمة بشأن المعارضة المصرية الحقيقة المؤسفة أنه خلال السنتَين اللتين انقضتا منذ بدء الثورات السياسية في بلدان عربية عدة ، قلّما كان التحليل الغربي لهذه الأحداث المذهلة مطّلعاً ومتعمّقاً في منظورات مقارنة. في بدايات الثورة، عقد العديد من المعلّقين مقارنات مبسّطة ومضلّلة إلى حدّ كبير بين هذه الأحداث وبين سقوط جدار برلين، جنباً إلى جنب مع التحوّلات الديمقراطية التي أعقبت ذلك في أوروبا الوسطى والشرقية. وعندما تلاشت رواية الربيع العربي المأمول لتتحوّل إلى نقاش حزين عن "الشتاء العربي"، تحطّم وجه التشابه مع جدار برلين تدريجياً ولم تتحقّق النتيجة المرجوّة، ولم يترك ذلك النقاش مجالاً سوى للقليل من التفكير المقارن والشفاف. بدلاً من ذلك، تراجع العديد من المراقبين، الذين أثبطتهم العديد من الصعوبات التي واجهتها محاولات الانتقال في مصر وليبيا وتونس، إلى العادة القديمة المتمثّلة بالإيمان بسلبية سياسية عربية استثنائية تشي بأن الديمقراطية لن تنجح في العالم العربي.
إن عدم وجود منظور مقارن أمر مؤسف من نواح عدة، ولكنه مؤسف بصفة خاصة في مايتعلق بفهم تطوّر الأحزاب السياسية. فمن شأن جرعة من التحليل المقارن أن تساعد، على الأقل، في تخفيف شيء عدم الارتياح الذي يشعر به كثير من المراقبين في الولايات المتحدة الآن بشأن الحياة السياسية الجديدة في مصر، وتساعد أيضاً على تجنّب بعض الأخطاء السياسية. ففي كتاب ألّفته منذ بضع سنوات وحلّلت فيه حالة الأحزاب السياسية في البلدان الديمقراطية الجديدة أو تلك التي تشقّ طريقها بصعوبة،
"Confronting the Weakest Link"، أبرزت "الرثاء المعياري" الذي يسمعه المرء عن الأحزاب السياسية في بلدان حول العالم تحاول الابتعاد عن الحكم الاستبدادي:
• الأحزاب تنظيمات فاسدة وأنانيّة تهيمن عليها نخب متعطّشة للسلطة وتسعى فقط إلى تحقيق مصالحها الخاصة أو مصالح مموّليها الأغنياء، وليس مصالح المواطنين العاديين.
• الأحزاب لاتمثّل أي شيء، ولا توجد أي اختلافات حقيقية في مابينها. أيديولوجياتها رمزية في أحسن الأحوال وبرامجها غامضة أو لاقيمة لها.
• تضيع الأحزاب الكثير من الوقت والطاقة في التخاصم مع بعضها بعضاً حول قضايا حزبية تافهة من أجل الحصول على مزايا سياسية لامعنى لها، بدلاً من محاولة حلّ مشاكل البلاد بطريقة بنّاءة وتعاونية.
• تنشط الأحزاب في وقت الانتخابات فقط عندما تأتي للبحث عن صوتك، ولا تسمع منها شيئاً بقية الوقت.
•
• الأحزاب غير مستعدّة لحكم البلاد، ويكون أداؤها سيئاً عندما تتمكّن من استلام السلطة أو تحصل على مقاعد في الهيئة التشريعية الوطنية.
تنسجم المشاكل التي تواجهها أحزاب المعارضة المصرية مع هذا الرثاء القياسي في كل تفاصيله. وباختصار، هي ليست فريدة من نوعها بالنسبة إلى مصر. وهي في الواقع نموذج آخر لنمط أوسع بكثير.
الأسباب الشائعة
ما الذي يسبّب نقاط الضعف المشتركة بين الأحزاب في الأماكن التي تمر بمرحلة مابعد الاستبداد؟
ثمّة أسباب متعددة لافتقار معظم الأحزاب التي انبثقت مؤخراً إلى وجود شبكة تنظيمية على المستوى الشعبي أو إلى وجود قاعدة. فتنظيم القاعدة الشعبية أمر صعب جداً في ظروف مابعد السلطوية، إذ عادة مايرتاب المواطنون الذين عاشوا عقوداً من الحكم القمعي من أي أحزاب سياسيةأو جميعها، وينظرون إليها في ضوء تجاربهم السلبية مع أي حزب مهيمن حكم في السابق. وعادة مايستغرق بناء هيكل حزبي محلي واسع سنوات عدّة حتى في أفضل الظروف. ومع ذلك تتعرّض الأحزاب التي تظهر بعد انهيار الحكم السلطوي لضغوط كي تنافس وتنجح في الانتخابات بسرعة كبيرة. وعادة مايمثّل الأداء السيّئ في الانتخابات الانتقالية المبكرة حكماً بالإعدام بالنسبة إلى الأحزاب الجديدة. وبالتالي فهي تركّز بطبيعة الحال على أسرع السبل لتصبح معروفة على نطاق واسع، وقبل كل شيء على ظهورها في وسائل الإعلام الوطنية، وخاصة على شاشات التلفزيون، وفي هذه الأيام الانتشار من خلال وسائل الإعلام الاجتماعية.
تبدو عملية التنظيم السريع للقاعدة الشعبية إشكالية حتى عندما تكون التعبئة الشعبية الكبيرة هي التي أدّت إلى إطاحة الحاكم المستبد. وغالباً مايكون الأشخاص الذين يندفعون إلى الشارع ويساعدون في طرد الدكتاتور، غير قادرين على ترجمة طاقتهم وقوتهم الظاهرة إلى عمل سياسي منظّم. كان هذا هو حال الشباب الذين خرجوا إلى الشوارع في إندونيسيا للمساعدة في طرد سوهارتو في العام 1998، وفي رومانيا عندما خاطر الآلاف بأرواحهم في احتجاجات الشوارع ضد تشاوشيسكو في كانون الأول/ديسمبر 1989. ولذا فإن ماكان بالنسبة إلى كثير من المصريين ومراقبي الأوضاع في مصر لغزاً محيّراً وكبيراً في السنتين الماضيتين – فشل احتجاجات ميدان التحرير الاستثنائية في كانون الثاني/يناير 2011 في التبلور إلى قوة سياسية فعّالة ومنظّمة في فترة مابعد مبارك – هو في الواقع متلازمة مألوفة.
وعموماً فإن الفكرة الأساسية التي تقول إن الهياكل التنظيمية الشعبية ذات أهمية حاسمة لنجاح الأحزاب ليست صحيحة بالضرورة في عالم اليوم الذي يتميّز بالنزعة الفردية المتصاعدة، وانتشار وسائل الإعلام، والتغيّرات التكنولوجية التي تؤثّر على طبيعة المشاركة السياسية. إذ تحافظ الأحزاب السياسية في بعض الديمقراطيات الراسخة والأكثر استقراراً، مثل ألمانيا والسويد، على قواعد تنظيمية شعبية متماسكة جرى بناؤها قبل عقود في ذروة ازدهار الأحزاب السياسية التي تستند إلى قاعدة جماهيرية. ومع ذلك، فقد أصبحت الأحزاب السياسية في عدد متزايد من الديمقراطيات أقل تجذّراً في الهياكل التنظيمية المحلية، وهي تتأثرّ بصورة أكبر بالقيادة الشخصانية من أعلى. إذ تركّز على وسائل الإعلام الوطنية وعلى الانتشار عن طريق شبكة الإنترنت بدلاً من القيام بحملات شعبية. وليس من الواضح على الإطلاق إن كانت الأحزاب في معظم الديمقراطيات، صغيرة كانت أم كبيرة، سترجع إلى النموذج المثالي للتنظيمات القوية والمستقرّة المستندة إلى القاعدة الشعبية التي يصرّ المراقبون الغربيون على أنها هي النموذج المتوقّع بالنسبة إلى الأحزاب المصرية.
بطبيعة الحال هذا لايعني أن على نشطاء المعارضة في مصر تجاهل القاعدة الشعبية. فقد تكون المعارضة مذنبة، بدرجات متفاوتة، بالنخبوية والميل إلى إهمال الاتصال المباشر مع المواطنين العاديين. لكن ينبغي ألا يتم الإصرار على هذا الانتقاد من دون النظر في بعض الحقائق الجديدة للتنظيم الحزبي حول العالم.
انتشار الأحزاب والمشاكسات التي تحدث فيها – تكاثر عشرات الأحزاب الصغيرة كالفطر وعمليات التفكّك والاندماج المتكرّرة والخلافات المستمرة بين القادة الحزبيين – أمر طبيعي بعد الانفتاح السياسي المفاجئ. وبما أن الفضاء السياسي والسلطة السياسية الحقيقية اللذين تم فتحهما حديثاً أصبحا فجأة لقمة انتخابية سائغة، فقد سارع أصحاب المشاريع السياسية إلى التنافس عليهما. وتمثّل الأحزاب وسيلتهم للقيام بذلك. وليس لدى أصحاب المشاريع السياسية، وهم دائماً من الأفراد الطموحين للغاية والعنيدين، سوى قدر ضئيل من الميل الأولي لتصنيف تطلّعاتهم المتزايدة وتحويلها إلى مؤسّسات جماعية أكبر. إذ يتعيّن عليهم اجتياز فترة اختبار لطموحاتهم تجاه الحقائق السياسية المحلية قبل أن يبدأوا بالتحوّل باتجاه أساليب عمل أكثر تعاوناً.
وبالتالي، فإن الأحزاب الجديدة في العادة هي تكوينات متسرّعة من المستوى الأعلى إلى الأدنى، بدل أن تكون منظمات تمثيلية تتم رعايتها ببطء من المستوى الأدنى إلى الأعلى. المشاكسات والمشاكل الداخلية عناصر طبيعية، وإن كانت مزعجة، من التطور الحزبي بدلاً من كونها علامات ضعف أساسية. كما أن عملية الغربلة تكون مطوّلة في كثير من الأحيان. ففي كرواتيا على سبيل المثال، التي أجرت انتخابات حرة ونزيهة بشكل معقول لأكثر من عشر سنوات، تم تسجيل 116 حزباً للمشاركة في الانتخابات البرلمانية الأخيرة في العام 2011، وقد نجح اثنا عشر حزباً منها في الوصول إلى البرلمان.
وفي مايتعلق بميل الأحزاب في البلدان التي تمر بمرحلة مابعد الحكم السلطوي إلى عدم وضع مقترحات ملموسة بشأن السياسة، تتمثّل المشكلة في بعض الأحيان بانعدام القدرة التنظيمية الأساسية. بيد أن هناك شيئاً أعمق هو الذي يؤثّر في كثير من الأحيان. وبسبب مقتضيات النظام المالي الدولي المعولَم، ضيّقت الحكومات في العديد من البلدان في مرحلة مابعد السلطوية خيارات السياسة الاقتصادية المتاحة. بالنسبة إلى الجزء الأكبر من هذه البلدان، التقشف هو السمة البارزة، وخصوصاً عندما تحاول التغلّب على الممارسات السيئة لرأسمالية مابعد المحسوبية، كما هو الحال في مصر. وكما لاحظ أستاذ العلوم السياسية البلغاري إيفان كراستيف بشيء من الفطنة، فإن المواطنين في العديد من الديمقراطيات التي تشقّ طريقها بصعوبة يحصلون في نهاية المطاف على السياسات الاقتصادية الأساسية نفسها بصرف النظر عمن ينتخبون. هذه الحقيقة تضعف حافز الأحزاب لبذل الكثير من الجهد بهدف وضع بدائل السياسات (كما تضعف حافز المواطنين للتصويت).
فضلاً عن ذلك، لايقتصر الأمر على كون خيارات السياسة محدودة للغاية في العادة ، فهي نادراً ماتكون جذًابة جداً بالنسبة إلى معظم المواطنين، مايثبّط الأحزاب عن الخوض في التفاصيل المبرمجة. في حالة مصر، من الواضح أن هذا لايؤثّر على أحزاب المعارضة وحسب، بل أيضاً حزب الحرية والعدالة الذراع السياسية لجماعة الإخوان المسلمين أيضاً، والذي لم يظهر سوى القليل من التماسك في السياسات العامة بعد تولّيه السلطة.
وكما هو الحال بالنسبة إلى مسألة تنظيم القاعدة الشعبية، لايقتصر هذا الأمر على سياقات مرحلة مابعد السلطوية. ففي انتخابات الرئاسة الأميركية التي أجريت العام الماضي، لم يقدم أي من الحزبين الرئيسين، رغم امتلاكهما القدرة على الوصول إلى موارد هائلة والقدرة على الاستفاضة في الحديث على المنابر السياسية، خطة جدّية تحظى بالصدقيّة لمواجهة التحدّيات المالية الرئيسة التي تواجه البلاد، أي كيفية التغلّب على مشاكل الميزانية في البلاد. فشل الحزبان في القيام بذلك لأنهما قدّرا أن أي خطة صادقة ستكون مؤلمة للغاية بالنسبة إلى كثير من الناخبين وتجعلهما يخسران من الأصوات أكثر مما يربحان على الأرجح.
إذا كانت الأحزاب السياسية في الولايات المتحدة تخشى طرح خطط اقتصادية متماسكة، فلماذا يبدو مستغرباً أن يتردّد صناع القرار المصريون، في بلد يواجه أساسيات اقتصادية أكثر إشكالية، في القيام بذلك؟
تساهلوا مع المعارضة
إذن، ينبغي على المراقبين الأميركيين وسواهم من المراقبين الخارجيين أن يتساهلوا، آخذين بعين الاعتبار هذه الحقائق النسبية، بشأن طقوس انتقادهم للمعارضة المصرية. إذ إن العزف على مواطن ضعف المعارضة كما لو أنها، بطريقة أو بأخرى، مجموعة قاصرة على نحو فريد من الأفراد والجماعات، يفتقر إلى المعلومات من الناحية التحليلية. بدل ذلك، يجب على المراقبين أن ينطلقوا من الفكرة الأساسية التي تقول إن ضعف أحزاب المعارضة في مصر (وإلى حدّ ما ضعف حزب الحرية والعدالة التابع لجماعة الإخوان المسلمين) مثالي تماماً للأحزاب التي توجد في سياقات مرحلة مابعد السلطوية.
والواقع أن المعارضة المصرية لاتبدو سيئة للغاية بالمقارنة مع قوى المعارضة السياسية في أماكن أخرى في لحظات تاريخية مماثلة، مثل أحزاب المعارضة الرومانية التي تميزت بالضعف في السنوات الأولى في فترة مابعد تشاوشيسكو، وأحزاب المعارضة الصربية التي كانت منقسمة إلى حدّ كبير في أواخر تسعينيات القرن المنصرم، والمعارضة السياسية الأرجنتينية خلال السنوات العشر الماضية على الأقل. ثم إن المعارضة المصرية تضم العديد من السياسيين من ذوي المكانة الحقيقية، مثل عمرو موسى ومحمد البرادعي، وآخرين أقل شهرة لكنهم يمتلكون طاقة سياسية وذكاء حقيقيين. إذ يتزايد التعاون بين العديد من أحزاب المعارضة بدلاً من أن يتناقص. وكان تشكيل جبهة الخلاص الوطني في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، وهي تحالف من أحزاب المعارضة، خطوة قيّمة في هذا الصدد، حتى لو انهارت في الفترة التي تسبق الانتخابات البرلمانية المقرّرة في وقت لاحق هذا العام. فبعض شخصيات المعارضة والأحزاب لديها دوائر انتخابية خارج القاهرة، وهم يبذلون جهوداً لبناء هياكل تنظيمية في أنحاء مختلفة من البلاد.
قد لاتملك أحزاب المعارضة مجموعة ملائمة من البرامج السياسية المقترحة لمواجهة التحدّيات العديدة في مصر، ومع ذلك فهي ليست بائسة ومحرومة تماماً على صعيد السياسة. فعندما اجتمع البرلمان في النصف الأول من العام الماضي، شاركت بعض أحزاب المعارضة في جهود إصلاحية مهمة في مختلف اللجان البرلمانية، مثل لجنة حقوق الإنسان. وعموماً فإن المعارضة تظهر درجة منخفضة نسبياً من الديماغوجية أو الشعبوية المتهوّرة، ولاسيما بالمقارنة مع الحركات السياسية المختلفة أو الأحزاب في جنوب آسيا وأميركا الجنوبية وجنوب أوروبا ومناطق أخرى في العالم.
إضافة إلى ذلك، وبصرف النظر عن مدى الضعف والعجز الذي تظهره أحزاب المعارضة الجديدة في السنوات الأولى من عمليات الانتقال السياسي، فإن بعضها يتمكّن (وليس كلها بالتأكيد، كما توضح حالة الأرجنتين) مع مرور الوقت من أن يصبح أقوى ويفوز في الانتخابات. في أوائل تسعينيات القرن المنصرم، بدا أن أحزاب المعارضة الرومانية ميؤوس منها مقارنة بجبهة الخلاص الوطني ذات التنظيم والتمويل الجيدين والتي تولّت السلطة بسرعة بعد سقوط تشاوشيسكو وفازت بأكثر من 85 في المئة من الأصوات في أول انتخابات رئاسية في البلاد. ومع ذلك فقد فازت المعارضة في الانتخابات الوطنية في النصف الثاني من العقد نفسه. وقد أصاب اليأس أنصار المعارضة في صربيا أحياناً في أواخر تسعينيات القرن المنصرم خشية ألا يكونوا قادرين على تنظيم أنفسهم، حيث استغرقتهم تنافساتهم وإحساسهم بالشلل والعجز من كونهم ضحايا. ومع ذلك، تولّوا إدارة البلاد بأسرع مما توقّع الجميع. ليس بالضرورة أن تداوي الأحزاب التي تكون ضعيفة جداً في البداية عيوبها المؤسّسية الرئيسة بسرعة، بيد أن العديد منها يتعلّم كيفية إدارة حملة انتخابية فعّالة ويستبدل القادة الأقل قدرة بآخرين أكثر قدرة. كما يتعرّف عليها المواطنون العاديون تدريجياً وعلى نحو أفضل.
شبكة القاعدة الشعبية القوية لجماعة الإخوان المسلمين وتماسك قيادتها النسبي قد يمكنّانها من أن تصبح سلطة حاكمة مهيمنة لفترة طويلة في مصر مابعد مبارك. ومع ذلك، في البلدان الفقيرة ذات الموارد الطبيعية القليلة، مثل مصر، ترث أي جماعة سياسية أو حزب يتولّى السلطة بعد انهيار الدكتاتور المشكلة الشاقّة والمثبطة المتمثلة بتلبية توقعات كبيرة بشكل غير واقعي من المواطنين حول إدخال تحسينات سريعة وكبيرة في جوانب كثيرة من حياتهم اليومية. وهناك بعض البلدان في مرحلة مابعد السلطوية تستقرّ على حكم الحزب المهيمن لفترات زمنية متواصلة، ومع ذلك، يمرّ العديد منها بفترات تناوب متكرّرة على السلطة حيث يجرّب الناخبون الذين يشعرون بالإحباط على نحو متزايد خياراً تلو الآخر، بما في ذلك الأحزاب التي كانت تبدو هامشية في البداية.
تغذّي وجهات نظر المعارضة المصرية القاسية أكثر مما ينبغي، جنباً إلى جنب مع عدم الإدراك أن العديد من الجهات الفاعلة المعارضة التي كانت ضعيفة في السابق في البلدان الخارجة من الحكم الاستبدادي قد كسبت الانتخابات، الفكرة التي لافائدة منها والتي تقول إن جماعة الإخوان المسلمين هي القوة السياسية الوحيدة التي يرجّح لها أن تحكم قبضتها على السلطة في مصر في المستقبل المنظور. وبدورها تشجع هذه الفكرة الاعتقاد الإشكالي الذي بدا واضحاً في سياسة الولايات المتحدة في العام الماضي، والذي يقول إنه من المرجح ألا يكون هناك بديل عملي للإخوان لسنوات عديدة، والميل الناجم عن ذلك للتقليل من أهمية العيوب السياسية الكبيرة لجماعة الإخوان المسلمين.
يتعيّن على الولايات المتحدة والقوى الغربية الأخرى ألا تجعل مهمتها تقتصر على دعم المعارضة بنشاط. لكن ينبغي عليهم على الأقل مقاربة المشهد السياسي الجديد في مصر بعقل مفتوح ومطّلع من خلال تجارب من أماكن أخرى.
عند الاستماع إلى مسؤولين ومحللين سياسيين أميركيين وهم يشهّرون بالمعارضة المصرية، من الصعب ألا نتساءل عما يعطي المراقبين الأميركيين الكثير من الثقة بالنفس على صعيد الحكم التقييمي. فالولايات المتحدة تتوفّر على أكثر من مئتي سنة من التاريخ الديمقراطي، وأرقى مؤسّسات التعليم العالي في العالم، وواحداً من أعلى مستويات المعيشة، ومع ذلك، أفرزت البلاد في انتخابات الرئاسة الأميركية التي أجريت في العام الماضي، قائمةً من الشخصيات السياسية المعارضة التي لاتقارَن إيجاباً، كمجموعة، بقادة المعارضة الأساسيين في مصر من حيث الذكاء أو النزاهة أو القدرة.
لقد حان الوقت لأن يضع المراقبون الأميركيون وغيرهم من المراقبين الغربيين جانباً المقارنات القائمة على المُثُل المُتخَيَّلة لنوعية وسلوك المعارضة. بدلاً من ذلك، عليهم أن يحاولوا وبشكل مدروس وأكثر واقعية فهم الحياة السياسية الجديدة في مصر ومستقبلها السياسي المحتمل.