المعلم

تكاد جنازته الصامتة العابرة من أمام أبراج دبي تصرخ بعلو الصوت: «عالشام.. عالشام» عنوان فيلمه الوثائقي الذي رصد فيها نبيل المالح – ( 1936- 2016) حركة التجريف التي تعرّض له الريف السوري نحو عشوائيات المدن وأكواخها السريالية؛ ربما تصحّ استعارته لنسمع آخر نداءات الرجل الميت خارج أسوار دمشق؛ متمّماً بذلك مسيرته السينمائية التي كانت دائماً خلف الكاميرا وأمامها، وعبر عشرات الأفلام والمشاريع الوثائقية والروائية المكتوبة منها والمروية بلسانه للأصدقاء وعشاق الفن السابع من جيل الشباب الذين ساندهم ووقف معهم وقدّم لهم الإمكانيات الفكرية والمادية كلها من دون أن ينتظر مقابلاً؛ مشاريع ومشاريع ربما تكون سيناريوهاتها الآن ما زالت مسوّداتها في أدراج بيته المتروك في حي المهاجرين الدمشقي، فمن هناك كان الرجل يهبط صباحاً أدراج جبل قاسيون بقميصه الزهري الفاتح ونظارتيه السميكتين ولهجته الشامية المحبّبة وصوته الخافت العميق ونكتته الحاضرة. كان ذلك قبل أن تبعده الأحداث الدامية عن جنته الدمشقية منذ عام 2012، مؤثراً الإقامة مع أسرته في الإمارات العربية.

ثمانون عاماً قضى الراحل منها نصف قرن ونيّف في عمر سينمائي متواصل؛ فمنذ ذهابه إلى «براغ» نهاية خمسينيات القرن الفائت وهجره لدراسة الفيزياء النووية هناك ليدرس الإخراج السينمائي في أكاديميتها؛ بدأ مشوار العمر مع حبيبة عمره، والتي ستأخذه كرجل مسحور بها نحو مفازات لا ترد؛ محققاً أهم الأفلام عن بلاده المسرنمة.

هذا العمر السينمائي كانت ذروته في فيلم «كومبارس» (1993، المؤسسة العامة للسينما) حيث نعثر بقوة على الشريط – الوثيقة الذي ابتعد فيه «المالح» عن شبهة الأفلام التجارية التي كان قد حققها على نحو «غوار جيمس بوند – 1973» فرد شخصية السينما وطلاقة أدواتها إلى تسجيل حافة من حافات الماغما الاجتماعية وتفاعلاتها الخطيرة المشطوبة من حسابات الكثيرين من سينمائيي ومسرحيي وروائيي سورية.

الفهد

وإذا كان فيلمه «بقايا صور» (1980) المأخوذ عن رواية حنا مينة هو فاتحة الهطول لإنعاش ذاكرة السوريين عن أواخر عشرينيات القرن الفائت؛ وما لف هذه المرحلة من غموض في الهوية الوطنية، وما اكتنفها من صراع طبقي مرير؛ فإن فيلمه «الفهد» (1969) المأخوذ عن رواية لحيدر حيدر هو بكل قوة كان وثيقة إنسانية بالغة الثراء والمصداقية عن حراك اجتماعي سياسي لفرد وحيد أوحد يواجه السلطة أعزل ومعدوماً ومحاصراً بوجوه بني جلدته؛ والذين أحالهم القهر والحرمان والظلم إلى مجاميع خرافية من صور الانصياع والطاعة والامتثال.

صورة كان السوريون سيخسرون كثيراً لو لم يمضِ صاحب «نابالم» إلى صياغتها في هذا الشريط الساحر الذي تماهت فيه المسحة الوثائقية للشخصيات مع الروائية الصادمة لمصرع «بو علي شاهين» البطل الشعبي الذي مضى به «المالح» إلى منصة إعدامه، وكأنه شعب كامل من الفقراء والمستضعَفين، وبتجسيد عالي المستوى لفنان من قامة أديب قدورة؛ الممثل الذي كان هذا المخرج قد اكتشفه بعد ظهوره على خشبة «مسرح الشعب» بحلب؛ موظفاً وجهه وصوته الأسطوريين مع «وحدو شرد بالليل» الأغنية التي كتبها ممدوح عدوان كنهاية لفيلمه الملحمي الكبير؛ ذاك الفهد المكبَّل بسلاسله؛ وبوجوه من دافع عنهم وهم صامتون يشاهدون مصرعه أمام أعينهم ولا يحركون ساكناً. صورة لا تُردّ عن خذلان الحشود لأبطالها التراجيديين؛ إنه تاريخ الآباء والأجداد؛ تاريخ البلاد المعاصر الذي لولا أفلام المالح وزملائه لعاد السوريون، بل والعالم بأسره إلى مسلسلات الفنتازيا التلفزيونية كي يستقرأوه! إذ كان «نبيل» يعرف أن السلطات العربية لا تريد ولا ترغب بأية وثيقة تدينها وتدحض روايتها الرسمية عن شعبٍ أعزل تم تفخيخه تلفزيونياً؛ وذلك كي يبقى هذا الشعب معتقلاً في منازله وغرف نومه؛ ولهذا يمكن القول إن «كومبارس» كان رائعة نبيل المالح التي أصرّ فيها على البقاء في منزل من منازل دمشق، إذ جعل الراحل قصة فيلمه تدور داخل جدران شقة بين أرملة وشاب يعمل كومبارساً في مسرحيات قومية، يعيش ويموت ويتظاهر بالموت هاتفاً في المظاهرات بأمر من «المخرج». مفارقة تركتنا أمام حميمية لا تُقاوم عن قصص مأساوية تجري في منازل المدينة كلٍ على حدا؛ حيث يلتبس الواقع السياسي مع صورة إنسان يحتلم تحت سرير فوق جسد رفيقته الخائفة؛ الخوف؛ أجل الخوف.. ولماذا نبحث عن مفردةٍ أُخرى هنا، ففيلم «كومبارس» كان شريطاً عن الخوف الممزوج بالشهوة والمطعّم بأقسى حالات الموت عزلةً ورهبة؛ الخوف الذي ضرب شخصيتَيْ الفيلم التي جسّدها كل من بسام كوسا وسمر سامي بأقصى حساسية يمكن ارتكابها أمام كاميرا طبيعية أرادها المخرج السوري ألا تتلصص بقدر ما كانت تراقب وتتابع وتقتفي آثار جسدين مرتعشَيْن في عراء مدينة عنيفة؛ مدينة يحدث فيها الموت العاطفي والجنسي منعزلاً على سرير كراهية واحد، سرير الرغبة والكبت المستتر والمحروس جيداً بأجهزة القمع الساهرة على راحة بال الأكليروس الديني والسياسي والجنسي؛ منزهاً من أي خرق يمكن تحقيقه على مستوى اجتماعي إنساني.

حياة السوريين

لحظة سينمائية متواترة كان «المالح» أبرز مَن كرّسها في الحياة الثقافية السورية؛ نافياً مقولة «ماركيز» بأن «الحياة نوع من الأدب الرديء» فمع أن الحياة كذلك؛ إلا أنها في أفلامه وشخصياته ستبدو مفتوحة على خيارات مشاهدة جديدة، في كلّ مرة يعود فيها المرء إلى أشرطته الثمينة التي سجلت سِفراً بصرياً حساساً وصادقاً عن حياة السوريين؛ فلم يكن الواقع كما بدا في أفلامه وإن طابقَهُ فنياً؛ بل كان على الدوام مقطعاً عرضياً من حياة قبضها صاحب «فلاش» (روائي قصير)، مستعيراً الزمن الواقعي لسينما نبشت بقوة في المخبوء والمسكوت عنه داخل مدينة محجّبة، لكنها تغلي من الداخل؛ تفور وتمور تحت سريرها الحديدي؛ فها هي الحشود التاريخية في «الفهد» ستتمخض أخيراً عن شخصيتين سجينتين في منزل دمشقي محاصر كما حالهما في «الكومبارس»؛ هما رجل وامرأة لا تدينهما إلا طبيعتهما البيولوجية؛ فلقد أدرك هذا الفنان بعد لأيٍ طويل أن السينما التي أراد أن يحققها ليست فيلمه «السيد التقدمي» الذي تعرض فيه لملف الفساد في صراع بين شخصيتَيْ برجوازي وصحافي، ولا هو «الكريستال المقدس» (2007» والذي انصاع فيه «المالح» لبروباغاندا «تعايش الطوائف»، بل كان هو هذا المزج الحاذق بين الفردي والجماعي؛ لتصير الكاميرا مِبضعاً لجس أورام اجتماعية نمت بسلام تحت جلد الكارثة.

تلك المهارة التي وصفه بها محمد ملص رفيق عمره، عندما أطلق على المالح لقب «المعلم» استطاع عبرها أن يؤسس للخط الوطني في سينما بلاده؛ لكنه وبعد موت «فيديو كليب» مشروعه الذي تحدث عنه لسنوات باحثاً له عن تمويل لكن دونما جدوى؛ سيلقى مصيراً مشابهاً للعديد من مشاريعه المؤجلة التي طاردها الرجل حتى آخر أيامه كفراش ملوّن، ولعل مشروع فيلمه «الوشم السابع» الذي كان ينوي تحقيقه عن المأساة السورية آخر تلك الأحلام السينمائية الموؤودة التي لم يستطع إليها سبيلاً؟

محطات

يُعدّ نبيل المالح (دمشق – 1936)، من رواد السينما السورية؛ فبعد دراسته للسينما في تشيكوسلوفاكيا عام 1964 عاد إلى سوريا في ستينيات القرن الفائت ليعمل في «المؤسسة العامة للسينما»، حيث قدّم أفلاماً روائية قصيرة عدة كان أبرزها: «إيقاع دمشقي» و «نابالم».

قدم في العام 1969 أول فيلم روائي قصير له بعنوان «إكليل شوك» وليقدم بعدها فيلمه «المخاض ـ 1970» ضمن الثلاثية السينمائية الروائية «رجال تحت الشمس» التي تعتبر أول فيلم سوري طويل ونال عليه جائزة مهرجان قرطاج السينمائي. ساهم المالح في تكوين حساسية سينمائية خاصة عبر أفلامه «الفهد ـ 1969» وفيلمه « بقايا صور-1980» وفيلم «تاريخ حلم – 1983» وفيلم كومبارس -1992» الذي نال عليه جائزة أفضل إخراج في مهرجان القاهرة السينمائي؛ وفيلمه الروائي القصير (فلاش – روائي قصير ـ 1993) عن نص لبسام كوسا (الجائزة الذهبية في مهرجان دمشق السينمائي العاشر).

توفي في أحد مستشفيات دبي في 24 شباط بعد صراع مع مرض سرطان الرئة.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى