المعلومات ليست عند أطراف الأصابع فقط
لن يمر المزيد من الوقت، قبل أن ينتاب القراء الحنين إلى الصحافة الورقية، فبينما الصحفيون والمنتجون ينهمكون في البحث عن طرق تطوير المحتوى المطبوع، يزداد الاعتقاد بأن عصر ما بعد الرقمية سيعيدنا إلى القراءة الطبيعية، الكتاب لن يموت والصحيفة ستعود تستقطب ثقة القارئ. ولا يعود ذلك إلى تراجع ما في سرعة مغريات التكنولوجيا، بل إلى إحساس يتصاعد بأن صلة الأجهزة بالدماغ والمشاعر تتبلد، وأن الإنسان لن يتخلى بسهولة عن الملموس والمحسوس الذي تمثله الصحيفة أو الكتاب.
ثمة طعم مختلف في القراءة التقليدية لا تقدمه القراءة الرقمية، وثمة تفاعل بين ما تمسه الأكف في الكيان الورقي والدماغ يختلف كليا عما تمسه أطراف الأصابع في الأجهزة الرقمية، ليكون الشعار التقليدي لمايكروسوفت مثلا “المعلومات عند أطراف الأصابع” قد فقد جدواه.
القراءة مرحلة لاحقة للمحادثة، وهي أشبه بكائن حي قابل للنمو والتطور، الإنسان يتحدث منذ مئات الآلاف من السنين، لكن عمر الكتابة ستة آلاف سنة، والنصوص المكتوبة لها فعل مؤثر وأكثر استجابة من قبل الدماغ.
وقد توصل عالم اللغويات نعومي بارون في كتابه الجديد “مصير القراءة في العالم الرقمي” إلى أن 92 في المئة من طلاب الجامعات في الولايات المتحدة واليابان وسلوفاكيا وألمانيا، الذين خضعوا للمسح في دراسته فضلوا النسخ المطبوعة على الهواتف الذكية وأجهزة الكمبيوتر المحمولة وأجهزة القراءة الرقمية، لأنها ببساطة سمحت لهم بالتركيز.
وهي بالطبع ليست نتيجة مفاجئة، على الأقل بالنسبة إلى الصحفيين الذين يتعاملون يوميا مع النص والقصص الإخبارية.
قبل عامين أثبت الباحثان بام مولر وودانيال أوبنهايمر أن الكتابة التقليدية تحفز الدماغ على إنتاج نص وملاحظات أعمق بكثير من تدوين واقتباس الملاحظات على شاشة الكمبيوتر، وهي نتيجة تفضي إلى أن عصر الورق لن يتلاشى بل بحاجة إلى محتوى مختلف منافس للمحتوى الرقمي.
أو وفق تعبير صحيفة الغارديان لا يمكن أن نصل إلى نتيجة عادلة عبر المقارنة بفعالية الطباعة في أفضل حالاتها مع العصر الرقمي في أسوأ حالاته، لأنه يجب علينا أن نتخلى على فكرة أن ثمة طريقة واحدة للقراءة، إذ لا يمكن حرمان الأطفال في مستهل حياتهم في التعلم من الكتب والأوراق والأقلام، كما لا نستطيع تخيل كيف سيعيش الأولاد من دون عالم لا حدود له يقدمه الكمبيوتر.
وهذا ما يفسره كاتب بريطاني مرموق مثل سايمون جنكينز، عندما وضع تصورا لمرحلة ما بعد الرقمية دون أن يلغي قيم القراءة التقليدية وطقوس زيارة المتاحف ودور العرض والمكتبات.
فيرى أن العصر ما بعد الرقمي سيكون بمثابة معادل تاريخي لأزمنة الراديو والتلفزيون والفاكس والصحيفة الورقية وبعدها الإلكترونية، دون أن يقلل من مستقبل قيم القراءة الشائعة والاستماع والمشاهدة الحية للحفلات الموسيقية والغنائية.
ويصف جنكينز الحاصل على وسام تقدير في مجال الصحافة، تلاشي الصحف الورقية لحساب الإلكترونية بالأمر المثير للسخرية، مطالبا بعدم الوقوع في خطأ إلغاء القديم من أجل التجربة الحية التي يبثها العصر الرقمي. أو بتعبير المدير الاقتصادي لشركة غوغل هال فاريان الذي برأ الإنترنت من مقتل الصحف الورقية، بقوله إن “الإنترنت ببساطة هو وسيلة متفوقة في توزيع ومتابعة الأخبار على الصحافة المطبوعة وليس امتدادا لها”.
فيما يحذر الروائي الأميركي الأشهر على قائمة الكتب اليوم جوناثان فرانزين من تأثير مواقع التواصل الاجتماعي على الحس الإبداعي العميق للكتابة.
وينصح فرانزين، البالغ من العمر 55 عاما، الجيل المعاصر بعدم إضاعة وقته في المزيد من التغريدات عبر تويتر، بدلا من تطوير أدواته في الكتابة.
وفي كل الأحوال لن تكفي المراهنة على القراء الأوفياء للصحف على بقائها، ثمة من ينتظر من الصحفي تجديد أدواته في نص مغر ومفيد غير خاضع للمفاضلة مع ما ينشره المواطن الصحفي، أو ما تقدمه المغريات الرقمية في الصورة والنص.
عصر ما بعد الرقمية قد يعيد الثقة للصحيفة الورقية، لكن وفق كل الاعتبارات ليست الصحيفة التي نراها اليوم وهي تخسر السباق مع الإنترنت، ثمة صحيفة ورقية ستولد من جديد.
ميدل ايست أونلاين