«المقاتلون الأجانب» في سوريا: هل تُعاد تجربة الشيشان والبوسنة؟

أعادت الأحداث الأخيرة التي شهدها «مخيم الفرنسيين» في ريف إدلب – يضم مقاتلين غالبيتهم يحملون الجنسية الفرنسية – إلى الواجهة ملف المسلحين الأجانب في سوريا
أعادت الأحداث الأخيرة التي شهدها «مخيم الفرنسيين» في ريف إدلب – يضم مقاتلين غالبيتهم يحملون الجنسية الفرنسية – إلى الواجهة ملف المسلحين الأجانب في سوريا والذي يعتبر اليوم واحداً من أعقد الملفات التي لم تجد لها حكومة دمشق حلاً حاسماً بعد.
بعد سقوط النظام كان المسلحون الأجانب على رأس قائمة الأولويات لدى حكومة دمشق، فهؤلاء يعتبرون أن لهم «فضل» في إسقاط النظام وتسهيل الطريق أمام «هيئة تحرير الشام» للوصول إلى كرسي الرئاسة، فسعت الإدارة الجديدة إلى تطمينهم، وهنا طُرحت فكرة منحهم الجنسية السورية، بالإضافة إلى تسليمهم مهاماً أمنية رسمية في الدولة، ومناصب عسكرية.
اصطدمت هذه التسهيلات بما وضعته الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي شرطاً أساسياً أمام عودة الانفتاح على سوريا ورفع العقوبات بشكل كامل، وكان الشرط آنذاك هو «حل مسألة المسلحين الأجانب»، دون الإشارة إلى شكل هذا الحل وأساليبه، فمنحت الحكومة السورية الجديدة الجنسية لعدد منهم ولازال التعداد الأكبر «غير مجنس».
«مخيم الفرنسيين» أثار قلق «الجهاديين»
ومع تطويق الأمن السوري لـ«مخيم الفرنسيين» في ريف إدلب، وفزعة فصائل الأجانب لنصرة من بداخل المخيم من «مهاجرين» تجدد طرح هذا الملف لكن من باب أنّه يشكل تهديداً على استقرار سوريا وأمنها، ما أثار مخاوف في أوساط المسلحين الأجانب أعربوا عنها عبر حساباتهم على منصة «إكس» متسائلين عن مصيرهم، وما إذا كان التضييق عليهم وشن حرب ضدهم هو عنوان المرحلة المقبلة.
وشهدت مدينة حارم في ريف إدلب الشمالي، اشتباكات عنيفة داخل ما يُعرف بـ«مخيم الفرنسيين»، بين قوات الأمن الداخلي السوري ومجموعة من المقاتلين الأجانب الفرنسيين، وبحسب وسائل إعلام سوريّة، فإن مصادر أمنية أكدت أنّ الاشتباكات اندلعت عقب محاولة قوة تابعة لحكومة دمشق دخول المخيم لاعتقال أحد المطلوبين، لتواجه بمقاومة عنيفة من قبل عناصر مسلحة داخل المخيم، معظمهم من حاملي الجنسية الفرنسية، بعضهم مرتبط بـ الفرقة 82 في الجيش السوري.
ومخيم «الغرباء»، المعروف في إدلب على أنه «مخيم الفرنسيين»، الذي يقوده الذي يقوده الفرنسي ذو الأصول السنغالية (عمر ديابي) المعروف بـ«عمر أومسن»، يقع بمحاذاة الحدود السورية التركية، في حارم بمحافـظة إدلب، بدأ يتشكل بعد عام 2013، عندما وصل إليه أومسن قادماً من مدينة نيس الفرنسية، إلى سوريا، وبدأ واحدة من أقوى عمليات التجنيد للمقاتلين الأفارقة والفرنسيين، الذين قدموا إلى سوريا للقتال، منهم من انضم إلى «داعش»، ومنهم من بقي مع أومسن في خطه القريب من «جبهة النصرة» حينها.
كل هذا يعيد إلى الأذهان السيناريو المتبع عادةً مع المقاتلين الأجانب عبر التاريخ القريب، في الشيشان والبوسنة وأفغانستان، فهل تعاد الكرّة هذه المرة في سوريا؟
مصير المقاتلين الأجانب في الشيشان
اندلعت الحرب الشيشانية الأولى عام 1994 ضد روسيا، تبعتها الثانية عام 1999، وبرز خلالها وجود مقاتلين أجانب قَدِموا من بلدان عربية وإسلامية للمشاركة في القتال إلى جانب الشيشان. راوحت التقديرات بين 500 و700 مقاتل أجنبي شاركوا في فترات مختلفة من الحرب.
ومع تشديد القبضة الروسية على الشيشان بعد عام 2000، واجه المقاتلون الأجانب ثلاثة مصائر أبرزها القتل أو التصفية، حيث استهدفت القوات الروسية القيادات الأجنبية مثل «أبو الحفص الأردني» الذي قُتل عام 2006، أو الانسحاب و الهروب، إذ اضطر عدد منهم إلى مغادرة القوقاز نحو تركيا أو بلدانهم الأصلية.
واضطر معظمهم إلى الانتقال نحو ساحات جديدة، فبعضهم انضم لاحقاً إلى تنظيمات في العراق وسوريا بعد عام 2011.
ولم تشهد الشيشان عملية «طرد جماعي» منظمة، بل تمت تصفية معظم المقاتلين أو فرارهم نتيجة الضغط العسكري والاستخباراتي الروسي.
مصير المقاتلين الأجانب في البوسنة والهرسك
خلال حرب البوسنة (1992–1995)، انضم مئات المقاتلين الأجانب، بعضهم كان يحمل جنسيات عربية، إلى صفوف الجيش البوسني تحت ذريعة الدفاع عن المسلمين البوشناق، وشكّل بعضهم وحدات مستقلة مثل كتيبة «المجاهدين».
وبعد توقيع اتفاقية «دايتون» للسلام عام 1995، فرضت الولايات المتحدة والمجتمع الدولي على الحكومة البوسنية إخراج جميع المقاتلين الأجانب مقابل الحصول على المساعدات الاقتصادية والعسكرية (يشبه الشروط التي وضعت أخيراً على سوريا من قبل الدول الغربية).
ونتيجة لذلك، تم سحب الجنسية من عدد كبير من المقاتلين الذين مُنحت لهم أثناء الحرب، كما رحّلت السلطات البوسنية المئات منهم بين عامي 1996 و2002.
وبقيت مجموعات صغيرة في مناطق معزولة، خصوصاً في القرى الجبلية، حيث شكّلت نواة لبعض الجماعات السلفية في البلقان.
ورغم أن عملية الطرد أنهت الوجود المنظّم للمقاتلين الأجانب في البوسنة، فإن بعضهم انتقل لاحقاً إلى مناطق أخرى مثل الشيشان والعراق، ما أسهم في استمرار شبكات عابرة للحدود تستفيد من خبرة الحرب البوسنية.
مصير المقاتلين الأجانب في أفغانستان
منذ الحرب الأفغانية ضد الاتحاد السوفيتي (1979–1989)، كانت أفغانستان مركزاً رئيسياً لتوافد المقاتلين الأجانب الذين أسسوا لاحقاً تنظيمات عابرة للحدود مثل «القاعدة»، وتكررت الظاهرة خلال الاحتلال الأميركي (2001–2021) حيث شارك مقاتلون أجانب إلى جانب حركة طالبان.
وبعد استعادة طالبان السيطرة على كابول عام 2021، واجه المقاتلون الأجانب ثلاثة مصائر رئيسية هي الاحتجاز أو المراقبة، حيث تم اعتقال عدد ممن ارتبطوا بالقاعدة أو تنظيم الدولة، والترحيل إلى بلدانهم الأصلية عبر قنوات استخباراتية أو تفاهمات مع دول مجاورة مثل باكستان، أو الاندماج ضمن هياكل طالبان إذ سمحت الحركة لبعض الأجانب بالبقاء في صفوفها شريطة الولاء الكامل لقيادتها، وفق تقارير أممية.
ولم تحدث عمليات طرد جماعي على غرار البوسنة، ولكن عدداً من المقاتلين واجهوا قيوداً مشددة أو الترحيل غير الرسمي.
يتضح من تحليل الحالات الثلاث أن مصير المقاتلين الأجانب لم يكن موحّداً، بل ارتبط بطبيعة النظام السياسي السائد بعد الحرب، ومستوى التدخل الدولي، ومدى قدرة الدولة المضيفة على ضبط أمنها الداخلي.
ففي حين اختار الروس الحسم الأمني في الشيشان، لجأت البوسنة إلى الطرد الرسمي، أما أفغانستان، فاتبعت أسلوب الاحتواء الجزئي، إلا أن القاسم المشترك بينها جميعاً هو غياب معالجة متكاملة لمرحلة ما بعد القتال، الأمر الذي جعل من هؤلاء المقاتلين مصدر تهديد مستمر للأمن الدولي عبر إعادة الانتشار أو الانخراط في تنظيمات جديدة.
ماذا عن سوريا؟
المقاتلون الأجانب في سوريا ينتمون إلى جنسيات متعددة، أبرزها: الأويغور (التركستان) من الصين، وهم من أكبر المجموعات العددية، يقدر عددهم ببضعة آلاف، والشيشان، والعرب جلّهم من الخليج العربي، والأردن، ومصر، وتونس، والمغرب.
بالإضافة إلى الأوروبيين من فرنسا، وبريطانيا، وألمانيا وعددهم قليل جداً خصوصاً أن عدداً كبيراً منهم عاد إلى بلاده، وإلى آخرين من جنسيات أخرى من أوزبكستان، طاجيكستان، تركيا، وألبانيا.
وأمام ما تم استعراضه من سيناريوهات تنتهي إليها مصائر فرق المقاتلين الأجانب في العالم يمكن تخمين أنّ واحداً من هذه السيناريوهات قد يتم تطبيقه في سوريا.
إما أن يتم دمج هؤلاء المقاتلين ضمن المجتمع السوري وقبولهم كمواطنين عاديين مع شرط عدم ممارستهم لأي تهديد خارج حدود الدولة السورية وعدم تجاوزهم على المجتمع المدني السوري والالتزام بالنظام والقانون السوري وعدم تشكيل تنظيمات داخل الدولة السورية.
أو أن تقبل الدول المصدرة للمقاتلين الأجانب بعودة هؤلاء مع عائلاتهم إلى أوطانهم وتعمل على إعادة استيعابهم ودمجهم ضمن مجتمعاتهم حتى يتحولوا إلى مواطنين عاديين، وهذا يمكن أن يكون حلاً في بعض الدول التي تمتلك برامج لتأهيل مثل هؤلاء. أما في حالة الدول الأمنية، فإن مصيرهم سيكون إلى المعتقلات والسجون.
وأيضاً، يمكن أن تقوم دولة ما لها مصلحة في جمع قاعدة بيانات عن الجهاديين بإعطاء لجوء سياسي لشريحة من الجهاديين الرافضين للعودة إلى بلدانهم بسبب التعاطي الأمني مع ملفهم، وممن لا يشكلون خطراً أمنياً عليها، إذ يتعهدون بعدم ممارسة أي نشاط جهادي.
الخلاصة أنّ تفكك شبكات المقاتلين الأجانب بعد انتهاء الحروب أدى إلى إعادة انتشارهم في مناطق نزاع جديدة مثل العراق وسوريا واليمن، ما أسهم في نشوء موجات جديدة من العنف العابر للحدود، كما أثارت عودتهم إلى بلدانهم الأصلية مخاوف أمنية، حيث واجهت الأجهزة الاستخباراتية في أوروبا والعالم العربي صعوبات في تتبّع العائدين وتقييم درجة تطرفهم.
لقد شكّلت هذه التجارب نواة لفكر الحركات الجهادية، وأثبتت أن غياب سياسات إعادة التأهيل أو الإدماج بعد الحروب يخلق بيئة خصبة لإعادة تدوير المقاتلين في نزاعات لاحقة.
صحيفة الأخبار اللبنانية



