المقاهي الشعبية فضاءات للسياسة والثقافة والثورات
لم يقتصر دور المقاهي في مصر على كونها مجرد مكان يجلس به العامة من أجل تناول المشروبات وتبادل الأحاديث، بل يمتد دور هذا المكان الذي يُعد بمثابة ذاكرة شعبية إلى تشكيل ثقافة ووجدان الشخصية المصرية، حيث على تلك المقاهي من مجالس سمر واحتكاكات مجتمعية وموروثات شعبية تتشكل الثقافة الشعبية، والتي يأخذ منها المصري ميراثه الثقافي ويكون وجدانه وشخصيته.
تجاوزت المقاهي الشعبية في مصر دورها كمجرد أماكن للتجمع وتناول المشروبات وقضاء أوقات الفراغ، ليتوسع نشاطها ليشمل دورا اجتماعيا وثقافيا في صناعة الثقافة الشعبية، وتشكيل الشخصية المصرية، كل هذا تبلور ليجعل للمقاهي نشاطا سياسيا موازيا لدورها الأساسي، جعلها تتحول إلى منارة حراك ثوري وثقافي يستند إلى الموروث التاريخي، ووسيلة شعبية لتوجيه العامة وتعبئة الشعور الوطني.
تعود جذور المقاهي في مصر إلى منتصف القرن السادس عشر، ولكن هناك تغيير كبير حدث في بدايات القرنين التاسع عشر والعشرين، ليتغير معه قيمتها ودورها وتأثيرها في الحياة الاجتماعية والثقافية المصرية، وقد وصف المستشرق الإنكليزي إدوارد دلين الذي عاش في القاهرة بداية القرن التاسع عشر المقاهي المصرية في كتابه “المصريون المحدثون”: بأنها “من الأماكن الرئيسية في القاهرة والتي يقصدها أفراد الطبقة الدنيا والتجار، وتزدحم بهم عصرا ومساء وخاصة في الأعياد الدينية”، وذكر أن “القاهرة تضم ألف مقهى ومقهى مكون من غرفة صغيرة ذات واجهة خشبية”.
ومن أبرز المقاهي الشعبية والتاريخية الموجودة في مصر، مقهى “ريش” و”الحرية” بوسط البلد، و”الحرافيش”، و”زهرة البستان”، و”الزهراء”، و”المشايخ”، و”الفيشاوي” في الحسين، وهناك أيضا مقهى “متاتيا” التاريخي. ومن المقاهي الحديثة التي لعبت دورا بارزا في ثورة 25 يناير وما تلاها من أحداث حتى 30 يونيو “مقهى البورصة” الذي كان معقلا للحركات الشبابية والثورية، وتم إغلاقه لأسباب لم يعلن عنها.
يعرف د. محمد عبدالله أستاذ علم الاجتماع بجامعة حلوان، المقاهي بأنها تلك التجمعات والمجالس التي يحبها المصريون، وتمثل بالنسبة إليهم المكان الذي يحقق لهم السعادة ويتنفسون فيه حرية القول والفعل، لافتا إلى أن المقاهي جزء رئيسي من مكونات الهوية الشعبية للمصريين، ومنذ الدور الثقافي والوطني الذي لعبته المقاهي في ثورة 1919، وأصبح لها معنى يجمع ما بين الهوية والثقافة والوجدان الوطني، وأيضا الحريات.
ويشير إلى أن المقاهي خاصة الشعبية منها، تعد عالما مختلفا عن كافة التجمعات الأخرى، فهي ملتقى يومي للعامة تروى فيها الحكايات والأسرار، ما جعلها تعج بالاحتكاكات الناتجة من تلاقي طبقات الشعب المختلفة اجتماعيا وثقافيا وفكريا، ومنها كانت بمثابة البوتقة التي انصهر بها مكونات الشعب المختلفة لتخرج منها الشخصية المصرية، لافتا إلى أن الطبيعة النفسية للشخصية المصرية وميولها نحو الاجتماعية كان لها تأثير مباشر في جعل للمقاهي دورا في توجيه الرأي العام وصياغة الثقافة الشعبية بهذه الاحتكاكات والتناغم والتواصل الفكري الذي يحدث بها بين أفراد وطبقات الشعب المختلفة.
وتابع: مقاهي القاهرة جسدت التغير الاجتماعي السريع الذي حدث في مصر أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، ومنه كان التغيير الثقافي والفكري، موضحا أن المقاهي القديم منها والجديد و”الشعبي” منها و”الأوروبي” جميعها منتج للحركة الثقافية الاجتماعية المصرية، والتي شكّلت بنية طبقية جديدة، ومزيجا عرقيا واجتماعيا جديدا، وفيها توحّد الجهود الفردية للمثقفين والمفكرين، وتبلورها في عمل جماعي ثقافي فعال يتجسّد بحراك في الشوارع وثقافة الشعبية.
من جانبها، توضح صديقة حسين، كاتبة متخصصة في الثقافة الشعبية وسلوكيات المجتمع، أن المقاهي في مصر شهدت تطورا كبيرا سواء من حيث طبيعتها المكانية من كونها مجرد مكان يتجمع فيه العامة والطبقات الدنيا من أجل تناول المشروبات وتبادل الأحاديث، حتى أنها لم يكن يطلق عليها المصطلح المتعارف عليه حاليا “مقهى” أو “قهوة” باللغة الشعبية، إلى أن تم إباحة القهوة كمشروب في مصر، ومنها أُطلق عليها مسمى “مقهى”، ليكون هذا التحول ليس مجرد تحول في المسمى فقط، وإنما في المضمون والدور أيضا، حيث توسّع دور المقاهي وتأثيرها في الوجدان الشعبي وأصبحت موردا رئيسيا للثقافة الشعبية، ومن أكثر الموجهات للوعي الشعبي.
وتضيف: المقاهي تنقسم إلى عدة أنواع، ومنها يختلف تأثيرها وقيمتها الثقافية، فهناك المقاهي الشعبية وهي تعد أصل المقهى وصورتها الرئيسية، وهناك المقاهي الحديثة التي تعرف بـ”الكافيه”، وتعد التطور للمقاهي، حيث اتسمت بالفخامة وتقديم المشروبات والأكلات الغربية، كذلك ارتبطت طبيعتها بالحياة الغربية، ومنها كانت أقرب للثقافة الغربية وأحد وسائل الترويج إليها، ومن ثم ابتعدت عن الثقافة الشعبية العربية فتراجع تأثير هذا النوع في الوجدان الشعبي، وهناك أيضا المقاهي التاريخية والثقافية وهي النوع الأكثر قيمة وتأثيرا، ومن أبرزها مقهى “متاتيا”، ومقهى “ريش” بوسط البلد، ومنها خرج الحراك الثوري والثقافي، وتتشكل بها غالبية الوعي الوطني والثقافة الشعبية للشخصية المصرية، مشيرة إلى أن المقاهي قديما كانت تختلف نوعيا عن المقاهي حاليا، حيث كانت في الماضي أماكن مخصصة لرواية قصص السيرة الشعبية والملاحم، من أمثال قصص أبي زيد الهلالي والأميرة ذات الهمة والظاهر بيبرس، وكانت تقدم بها مشروبات كالقرفة والكركديه والحلبة والزنجبيل، إلى أن أضيفت إليها القهوة بعد إباحتها في مصر.
وتلفت صديقة إلى أن بعض المقاهي اكتسبت قوتها وقيمتها الثقافية والتاريخية من شهرة مرتاديها في مجالات السياسة والفكر والأدب، فقد شهد مقهى “متاتيا” تأسيس أول حزب مصري، “الحزب الوطني الحر”، كما ألقى فيها جمال الدين الأفغاني خطابه الأول، وارتاده سعد زغلول باشا والشاعر الكبير أحمد شوقي وعباس العقاد، كذلك احتضنت قهوة متاتيا القادة والسياسيين الذين خططوا للثورة العرابية، أيضا مقهى “الفيشاوي” بالحسين، الذي أخذ شهرته من كونه ملتقى رواد الفكر والثقافة مثل الشيخ محمد عبده، وجمال الدين الأفغاني، كل هذا كان شاهدا على أن دور المقاهي لم يقتصر على التوجيه والتنظير فقط، بل تعداهما إلى تفجير الثورات وإحياء الوعي الوطني.
هذا ويذكر كتاب “وصف مصر” الذي أعدته الحملة الفرنسية أثناء احتلالها لمصر: “أن مدينة القاهرة بها ما يزيد عن 1200 مقهى بخلاف مقاهي مصر القديمة التي يبلغ عددها 500 مقهى في بولاق”، ووصف الكتاب هذه المقاهي بأنها “لا يوجد فيها سوى دكك مقاعد خشبية تشكل نوعا من المقاعد الدائرية بطول جدران المبنى يجلس عليها الزائرين، ولا توجد أثاثات على الإطلاق، وليس بها ثمة مرايا أو ديكورات داخلية أو خارجية”، وعلى الرغم من ذلك أكد الكتاب أن تلك المقاهي لها تأثير مباشر في التوجيه الفكري وتشكيل ثقافة الشعب المصري.
ميدل إيست أونلاين