تحليلات سياسيةسلايد

المقاومة تدخل المفاوضات على طريقتها

من دون شروحات لا معنى لها، لم تكن المؤسسة الأمنية والعسكرية في إسرائيل في حالة دهشة مما حصل السبت. التقديرات الاستخباراتية لدى العدو كانت تشير بقوة إلى عمل ما يحضر له حزب الله. ربما لم يُفاجأ العدو بالرسالة، لكن السؤال الرئيس كان حول حجم الرسالة وأدواتها وتوقيتها. وتصرف جيش العدو بناء على إشارات بنى على أساسها تقديره الذي اتبعه بإجراءات عسكرية دفاعية واسعة النطاق، ما سمح له برصد الطائرات بعد دخولها الأجواء التي تحيط بالمنطقة، قبل أن يقرّر طريقة التصرف بناء على نوعية الطائرات التي لم تكن من جيل واحد. لكن العدو كان واثقاً إلى حدّ بعيد بأن الطائرات غير مسلحة وليست معدّة لهجوم عسكري.

العدو يقرأ جيداً عقل حزب الله. لكنه يخطئ أحياناً عندما يستمع إلى تقديرات بأن الحزب مقيّد لأسباب، منها ما هو داخلي في لبنان ومنها ما يتعلق بثمن المواجهة. ومع ذلك فإن «العاقلين» في مؤسسات العدو يعرفون جيداً أن خطوة حزب الله مهّد لها علناً قبل أسابيع، عندما حدّد الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله الوجهة بالقول: «إن الهدف هو منع العدو من المباشرة بنشاط استخراج النفط والغاز من حقل كاريش، وعلى العدو أن ينتظر نتيجة المفاوضات. ونحن نملك القدرات لمنعه من العمل في حقل كاريش، وكل إجراءات العدو لن تقدر على حماية المنصات. وعلى السفينة أن لا تتورط في العدوان على لبنان. ويكفي أن نرسل فوقها مسيّرات حتى تعرف ما الذي يجري الحديث عنه. والمقاومة لن تقف مكتوفة الأيدي أمام نهب ثروات لبنان وكنز لبنان. وكل الخيارات مفتوحة ومطروحة أمامها ومن دون أي تردد».

لكن سؤال العدو، وغيره في لبنان والخارج، كان حول التوقيت. وقد اتضح للجميع بأن الخطوة جاءت في سياق الجولة الأولى من المفاوضات «الجديدة» التي قادها الوسيط الأميركي عاموس هوكشتين بين لبنان وكيان الاحتلال. وكان الحزب على صلة تفصيلية بكل الرسائل التي تتنقل بين بيروت وواشنطن وتل أبيب، كما أتيح له الاستماع مباشرة، من جهات غربية، على أجواء الموقف في كيان العدو. وكانت الخلاصة واضحة بالنسبة إليه، وهي أن العدو يناور بدعم أميركي لإجبار لبنان على التنازل عن حقوقه. بالتالي، وجد الحزب نفسه أمام خطوة هدفها الفعلي «تشكيل حدث تأسيسي بما خص الصراع القائم، خصوصاً أن العدو وأميركا بنيا استراتيجيتهما ومواقفهما وخططهما على تقديرات بأن حزب الله مطوّق رسمياً وشعبياً، ويُدفع دفعاً نتيجة الضغط الداخلي إلى الانكفاء والابتعاد عن التأثير في مسار التفاوض. بالتالي، فإن عملية المسيرات ستكون بنداً أولاً في الجولات التفاوضية الجديدة.

ولتوضيح الموقف يجب الإشارة إلى أن حزب الله يناقش الجهات الرسمية حول ملف الترسيم، لكنه ينبه دوماً إلى أن على لبنان التصرف من موقع أنه يملك قوة قادرة على مواجهة التهديدات الإسرائيلية والأميركية. ويوضح لمن يهمه الأمر بأن الحاجة الأميركية والأوروبية إلى الطاقة تحتاج إلى استقرار في كل البحر المتوسط، وهم يعرفون أن أي مواجهة مع إسرائيل ستجعل مياه البحر المتوسط كلها في حالة عدم أمان، وليس بمقدور أحد ضمان الأمن لأي تحرك ملاحي تجاري أو غير تجاري. وحتى إسرائيل لم تكن لتأتي بالسفينة لولا أنها واثقة من عدم حصول تطورات عسكرية. بالتالي، فهي لا تريد الذهاب نحو مواجهة، ما يعني أنها جاهزة ضمنياً للتنازل.

كذلك أكدت المقاومة التزامها الموقف الرسمي لناحية المناطق الاقتصادية في البحر. لكنها قالت صراحة إنه في حال ناور العدو ولجأ إلى الاعتداء على حقوق لبنان، ولم تبادر الدولة اللبنانية إلى إجراءات ردعية واضحة وفعالة، فهي ستبادر إلى ردود تتناسب مع الاعتداءات الإسرائيلية لوقفها وردعها وضمان حقوق لبنان.

وبعيداً من أجواء الهبل التي تسود جماعة أميركا وإسرائيل والسعودية في لبنان، فإن كل من هم في موقع القرار، داخل الحكم أو خارجه، في لبنان وخارجه، حتى داخل العدو، يعرف أن المقاومة تتصرف بواقعية وهي ستقوم بالرد المتناسب، ولن يتمكّن العدو من استدراجها إلى أي فخ ينصبه، وهي في الوقت نفسه تتصرف في مثل هذه الحالات على أساس التقدير الأسوأ.

نحن الآن أمام جولة جديدة من المفاوضات بوساطة أميركية، فيما الإيجابية التي حملتها الجولة الأخيرة من التفاوض وما نقله الأميركيون ينحصر عملياً في «أن إسرائيل ترحب بالتنازل اللبناني عن الخط 29 وتبدي استعدادها للعودة إلى مفاوضات الناقورة». وهذا لا يلغي الأجوبة السلبية بعدم إقرار إسرائيل بأن الخط 23 هو خط نهائي، وبأن حقل قانا يتبع بكل ما فيه للبنان. إضافة إلى أن الأميركيين والأوروبيين لم يتطرقوا بعد إلى حاجة لبنان الواضحة لالتزام المجموعة الدولية بمباشرة الشركات العالمية العمل في الحقول اللبنانية وعدم انتظار التسويات الكبرى، وأنه في هذه الحالة ستلتزم المقاومة منع العدو من العمل قبل ضمان حقوق لبنان، ليس في الحدود فقط بل في مباشرة العمل على استخراج الطاقة من هذه المناطق.

عملياً، تفرض استراتيجية لبنان أن يتم سريعاً حسم حقوق لبنان في كامل حقل قانا وفي تثبيت الخط 23، بالتالي الانتقال فوراً إلى مرحلة تعديل جدول الأعمال بحيث يكون هناك بند جديد واضح وجلي يقول إن هذه الاتفاقيات يجب أن تشمل، وبوضوح، حصول الشركات العالمية على تفويض دولي بالقدوم إلى لبنان والمباشرة بالأعمال كما هي الحال في الجانب الآخر، وألا يقتصر ذلك على هذه المنطقة، وإنما إطلاق حريات الشركات العالمية في العمل في كل الحقول اللبنانية الممتدة شمالاً حتى الحدود مع سوريا.

يبقى أن على اللبنانيين التصرف بقلق دائم حيال تصرفات بعض القيادات اللبنانية التي تخشى الأميركيين لأسباب مختلفة. والتوازن مع هؤلاء يقتضي إدراك الجميع بأن واشنطن والعدو يعرفان، بالدليل الملموس، أن خيار التوتر خيار جدي وليس تهديداً في الهواء. مع الإشارة إلى أن الوسيط الأميركي كان سمع عن هذا الأمر لكنه تعامل معه بخفة، إلى أن سمع خلال الاجتماع في القصر الجمهوري كلاماً أكثر وضوحاً ولو اتسم بديبلوماسية، وهو ما قاله نائب رئيس المجلس الياس بوصعب لهوكشتين، بأنه يفترض بالجانب الأميركي العمل على خلق «خط ساخن مع الجهات الأمنية اللبنانية، وتحديداً الأمن العام اللبناني لمواجهة احتمالات فشل المفاوضات وانتقال الجميع إلى مرحلة قد تشهد تطورات غير سياسية». وقد فهم الأميركيون الأمر على أنه رسالة واضحة تقول بأنه في حال فشلت المفاوضات قد نكون جميعاً أمام مواجهة من نوع آخر.

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى