منذ سنوات، تحاول الولايات المتحدة الأميركية عزل المرافئ السورية واللبنانية وتحويل التجارة الشرق أوسطية باتجاه المرافئ الإسرائيلية. وقد اتخذت في سبيل ذلك عدة خطوات، أملاً في تحقيق هدفين في آن: الأول تعطيل نشاط المرافئ السورية واللبنانية أو حصر عملها في النطاق القطري، وذلك في إطار مشروع حصار سوريا اقتصادياً. أما الهدف الآخر، فهو يكمن في فتح باب التطبيع بين “إسرائيل” والدول العربية عبر البوابة الاقتصادية.
ومع إعلان الرئيس الأميركي ورئيس الوزراء الهندي وولي العهد السعودي خلال توقيعهم على مذكرة تفاهم مشتركة على هامش اجتماعات دول العشرين إطلاق مشروع “الممر العظيم”، تكون المرافئ السورية واللبنانية، إلى جانب التركية أيضاً، قد حُيدت بالفعل عن واحدة من أهم طرق التجارة الإقليمية لمصلحة المرافئ الإسرائيلية.
وبصرف النظر عن فرص نجاح هذا المشروع في الخروج إلى حيز التنفيذ، فإن الهدف الأميركي-الإسرائيلي المشترك سيبقى حاضراً في كل السياسات والإجراءات المتعلقة بمحاولة ترتيب أوراق التجارة الشرق أوسطية.
المشروع الأساس
منذ السنوات الأولى من عمر الأزمة السورية، تشير المؤشرات إلى أن هناك مسعى إسرائيلياً لتعويم مرفأ حيفا كممر إقليمي للتجارة الشرق أوسطية. هذا الأمر يمكن ملاحظته من خلال عدة مؤشرات، أبرزها:
– قيام “تل أبيب” بأكبر عملية تأهيل وتحديث للمرفأ عبر الاستعانة بشركات أجنبية. والملاحظ أن عملية التأهيل كانت تركز على توسعة المرفأ لاستقبال أكبر عدد ممكن من السفن من مختلف الأحجام، وبشكل يزيد على الحاجة الإسرائيلية الداخلية المعتادة.
– فرض الإدارة الأميركية عقوبات متتالية على المرافئ السورية بذرائع مختلفة، إلا أن غايتها الأساسية كانت تكمن في إجبار السفن التجارية المحملة بالبضائع المتجهة نحو العراق والأردن وبعض دول الخليج على تحويل وجهتها من مرفأي طرطوس واللاذقية إلى مرفأ حيفا، ومن ثم نقل حمولاتها لاحقاً بالبر، وعبر الأراضي الأردنية، إلى مقصدها النهائي. كما أن إخراج معظم المعابر الحدودية لسوريا مع دول الجوار عن سيطرة الحكومة السورية أسهم بشكل كبير في تدعيم الخطة الأميركية الإسرائيلية لاستبدال المرافئ السورية بالصهيونية.
– طرح مشروعات للربط السككي والبري بين “إسرائيل” والأردن وبعض الدول العربية بهدف إيجاد ممرات جديدة لتجارة الترانزيت التي تضررت كثيراً من جراء الحرب السورية، ولا سيما مع خروج المعابر الحدودية مع كل من تركيا والأردن والعراق عن سيطرة الحكومة السورية، رغم أن هذه المشروعات لم يكتب لها النجاح بفعل مواقف الدول العربية الرافضة للتطبيع مع الكيان الصهيوني.
عام 2015 مثلاً، كان هناك طرح يتمثل في استيراد العراق احتياجاته عبر مرفأ حيفا عوضاً عن مرفأ طرطوس، وهذا ما جعل وفداً حكومياً سورياً يطير آنذاك إلى بغداد للوقوف على موقف الحكومة العراقية التي أكدت رفضها أي شكل من أشكال التطبيع مع الكيان الصهيوني.
وعام 2017، طرح وزير إسرائيلي مد سكة حديد لشحن البضائع ونقل الركاب بين كل من “إسرائيل” والأردن والسعودية، فضلاً عن عشرات المشروعات الأخرى التي طرحت إعلامياً، والتي لم يعرف إن كانت هناك مشاورات ونقاشات سرية بشأنها.
– فتح خط مباشر بين المرافئ التركية والمرافئ الإسرائيلية، وذلك لاستغلال توقف تجارة الترانزيت للبضائع والسلع التركية والأوروبية التي تتوجه إلى الأردن ودول الخليج وغيرها عبر الأراضي السورية. وبحسب التقديرات المعلنة، فإن 25% من تجارة تركيا مع الدول العربية (دول الخليج) تتم عبر مرفأ حيفا.
ومع أنّ الأرقام الإسرائيلية المعلنة تتحدث عن وجود ارتفاع في كميات البضائع المنقولة عبر مرفأ حيفا إلى الدول العربية، إلا أن المرفأ فشل حتى الآن في التحول إلى مرفأ إقليمي متقدم لأسباب سياسية واقتصادية، لكن ذلك لم يفقد الخطة الأميركية –الإسرائيلية زخمها أو يجعلها تتباطأ بدليل إدخال واشنطن المرافئ الصهيونية ضمن مشروع “الممر العظيم”، وبموافقة صريحة وعلنية من المملكة العربية السعودية، التي لا تقيم إلى الآن أي علاقات دبلوماسية أو حتى اقتصادية مباشرة مع الكيان الصهيوني.
عقبات تواجه “الممر العظيم“
بعد كل ذلك، كان من الطبيعي أن يُعتمد في مشروع “الممر العظيم” على المرافئ الإسرائيلية كبوابة تواصل أساسية مع المرافئ الأوروبية. والمؤسف أن هذا يتم هذا باعتراف عربي، وعلى حساب مصالح سياسية واقتصادية عربية مباشرة.
هذا ربما ما يفسر العديد من التطورات خلال السنوات السابقة، كالسعي الأميركي الدؤوب إلى محاولة عزل سوريا عن العراق، والسيطرة على المعابر الحدودية بين البلدين، واقتلاع تنظيم “داعش” السكة الحديدية التي كان من المتوقع لها أن تربط دمشق ببغداد ثم طهران، وعرقلة أي تقارب سوري – تركي في الوقت الراهن، وتفجير مرفأ بيروت وإخراجه من الخدمة، وما إلى ذلك من تطورات تصب جميعها في خدمة تفرد المرافئ الإسرائيلية بالتجارة الشرق متوسطية، وتشكيلها بوابة للتطبيع السياسي والاقتصادي مع بعض الدول العربية كالسعودية.
لكن ذلك لا يعني أن المشروع بات قدراً وصار قادراً على تحقيق أهدافه وفق ما تم الإعلان عنه، وذلك للعوامل التالية:
– المشروع دونه مشكلات عدة تتعلق بالجدوى الاقتصادية المتحققة منه للدول الشرقية والغربية مقارنة بالبدائل التقليدية المتاحة، وبالظروف السياسية المتغيرة التي ستكون من دون شك سبباً أساسياً في ترجيح كفة التنفيذ من عدمه.
– وجود دول عدة في المنطقة فاعلة ومؤثرة خارج إطار المشروع المذكور سيؤثر حكماً في فعالية المشروع وتنفيذه، من قبيل مصر التي لديها قناة السويس، والتي لن تسمح بتضرر نشاطها الاقتصادي، وتركيا التي لن تقبل بتحييد مرافئها عن نشاطها الإقليمي، وإيران التي تسعى لبناء تعزيز تحالفاتها ببناء شبكة علاقات اقتصادية قوية.
– سعي الإدارة الصينية لتسريع خطوات العمل في مشروعها “الحزام والطريق” لمواجهة المشروع الأميركي سيجعل دول المنطقة المبعدة عن “الممر العظيم” تعطي الأولوية للانضمام إلى المشروع الصيني في حال كونها غير منضمة أو تنفيذ الاتفاقيات الموقعة مع الجانب الصيني، المتعلقة بمشروع “طريق الحرير الجديد”، الأمر الذي سيزيد عدد دول المنطقة المستفيدة من مشروع الصين الذي يعد أقرب إلى التنفيذ بحكم التغلغل الصيني في الشرق الأوسط والشراكات الاقتصادية التي سعت إلى تأسيسها مع دول عدة.
– المشروع الأميركي – الهندي – السعودي المشترك سيجبر دول المنطقة الأخرى على التعاون بينها ثنائياً وجماعياً في مجالات الاستثمار والربط البري والبحري والسككي، وتسهيل حركة التبادل التجاري وتنقل الأفراد وشحن البضائع.
هذا الأمر من شأنه أن يخفّف تأثير المشروع في الوضع الاقتصادي لهذه الدول. مثلاً، إن الخيار الوحيد المتاح أمام دول مبعدة من المشروع، كإيران والعراق وسوريا ولبنان وتركيا، سيكون التعاون بينها وإحياء العديد من المشروعات المطروحة سابقاً، كالربط السككي وتطوير عمل المرافئ والتعاون في مجال الطاقة وغير ذلك.
فرص التنفيذ كبيرة
من باب الموضوعية والعقلانية، يجب الاعتراف بأن فرص تنفيذ “الممر العظيم” كبيرة، وهذا بخلاف أمنياتنا، ولا سيما في محطته الإسرائيلية، فالمشروع يحقق مروحة واسعة من الأهداف الأميركية الاستراتيجية، وفي مقدمتها مواجهة الصين ومشروعاتها الاقتصادية التي يزداد انتشارها في كل من آسيا وأفريقيا، وتوسيع دائرة الدول العربية “المطبعة” اقتصادياً، ومن ثم سياسياً، مع “إسرائيل”، والتضييق على كل من إيران وروسيا، ولا سيما لجهة ضمان وصول إمدادات النفط والغاز الخليجيين إلى أوروبا بكلفة أقل وبوقت أسرع، وتالياً مواجهة سيطرة الغاز الروسي على السوق الأوروبية.
لذلك، إن واشنطن ستضغط خلال السنوات المقبلة لتنفيذ المشروع الذي لن يتم بين ليلة وأخرى، وخصوصاً أنها لن تدفع دولاراً واحداً في سياق ذلك، لكن ماذا ستفعل الدول الأساسية في المنطقة والمبعدة عن المشروع؟ هل يمكن أن نشهد قريباً الإعلان عن مشروعات مضادة أم أن الاهتمام سيكون محصوراً بتسريع وتيرة العمل بمشروع “الحزام والطريق”؟
الميادين نت