تحليلات سياسيةسلايد

المنطقة في زمن تحديد المصائر

محمد سيف الدين

الردّ الإيراني أوقف مساراً عنوانه التصعيد من طرف واحد ومن دون دفع أثمان. لكنه ترك لواشنطن نافذةً للتدخّل وإثبات سطوتها في علاقاتها مع “إسرائيل”، أو قل إنه وضع الديمقراطيين أمام هذا الاختبار على بعد شهرٍ من استحقاقهم الانتخابي.

 

يبدو الموقف الروسي من تطوّر الصراع في الشرق الأوسط لافتاً جداً ويختزن دلالاتٍ كثيرة، في لحظة تحوّلٍ كبرى. ويبدو أن “إسرائيل” فوجئت بناحيتين من الرد الإيراني:

‏⁃ حجمه ومستواه والخسائر التي أحدثها، وخصوصاً الرسائل التي حملها لها وللولايات المتحدة، وفيه أكدت طهران أن ⁧‫”إسرائيل”⁩ وأميركا هما المسؤولتان عن تمدّد الصراع وتصاعده من ⁧‫لبنان⁩.

‏⁃ التوقيت، إذ منع الشعور بالزهو نتنياهو وحكومته من تقدير توقيت وقدرة ⁧‫إيران⁩ على الضرب بشدة والتخلّي عن جزء من حسابات الصبر الاستراتيجي لمصلحة رفض فكرة السماح بكسر جميع المعادلات تحت عنوان “حكومة مجنونة” و”فراغ إدارة”.

ماذا غيّر الرد؟

الردّ أوقف مساراً عنوانه التصعيد من طرف واحد ومن دون دفع أثمان. لكنه ترك لواشنطن نافذةً للتدخّل وإثبات سطوتها في علاقاتها مع “إسرائيل”، أو قل إنه وضع الديمقراطيين أمام هذا الاختبار على بعد شهرٍ فقط من استحقاقهم الانتخابي. كما أنه استبق وصول أيّ رئيسٍ بمنع ولادة ظروفٍ ملائمة له للاستثمار بجرائم نتنياهو.

‏هكذا سيصل الرئيس/الرئيسة إلى البيت الأبيض والشرق الأوسط في حالةٍ تهدّد مصالح واشنطن الاستراتيجية في المنطقة من جهة، وصراعها مع روسيا والصين من ناحيةٍ ثانية.

‏لكن كيف تفهم “إسرائيل” قدرة المحور على إصابتها بضربات من النوع القاتل؟

هنا بعض المعطيات اللافتة:

‏الضربات الإسرائيلية على سوريا، في منطقة دمشق، وخصوصاً في منطقة الساحل السوري، تؤشر على فهمٍ إسرائيلي يعيد جزءاً أساسياً من التطوّر النوعي في ضربات المحور إلى تعاونٍ دراماتيكي مع روسيا. وهي تفهم أن شهية نتنياهو على تحريك الحدود مخيفةٌ تماماً لموسكو على المستوى الاستراتيجي.

‏ثم إن ظهور الصواريخ الفرط صوتية في اليمن وإيران، ودقة الإصابات التي يحقّقها الطرفان في ضرباتهما البعيدة، وإرسال إيران قمراً اصطناعياً إلى الفضاء بصاروخٍ محلي، هي بمجملها معطياتٌ تؤشر على دخول التعاون الروسي-الإيراني فضاءً جديداً، حتى قبل توقيع اتفاقية الشراكة الاستراتيجية الشاملة هذا الشهر.

‏وبالنسبة لجزئية دقة الإصابات التي ظهرت في صور بثّتها الوكالات العالمية اليوم، فإنها تسحب هذا التعاون المتزايد على أنظمة تحديد المواقع، وإدارة الأهداف من السماء.

لماذا سوريا؟

كان فشل محاولة بنيامين نتنياهو الاتصال بالرئيس الروسي فلاديمير لمنع الرد الإيراني، ورفض الأخير تلقي هذا الاتصال قبل حدوث الرد الإيراني، مؤشراً كبيراً على اتخاذ روسيا خياراً واضحاً في هذا المفصل من الصراع إلى جانب المحور.

 

‏زار طهران ألكسندر لافرنتييف، مبعوث الرئيس الروسي، وهناك عبّر عن إدانة بلاده لجرائم “إسرائيل” في غزة ولبنان، وحمّل واشنطن مسؤولية تدهور الأوضاع.

‏الزيارة بالغة الأهمية، خصوصاً عند هذا المنعطف الخطر. تريد روسيا القول إن إسقاط إيران أو سوريا واعتماد نتنياهو على ضرباتٍ أمنية كبرى ومساعدة واشنطن، تحولاتٌ ممنوعة.

‏وفي الموقف الروسي ترجمةٌ لتصريح لافروف قبل أسابيع بأن لموسكو الحقّ بمساعدة أي طرف يعادي المصالح الأميركية في العالم بصرف النظر عن تصنيفه، كردٍ على خطوات واشنطن الإضافية في تسليح أوكرانيا.

مواضيع متعلقة

‏في سوريا، نتنياهو يردّ على موسكو وليس على المحور فحسب. وهو في ذلك يحاول إبعاد موسكو عن دربه في سعيه لضرب إيران وقوى المحور.

‏لكن موسكو لن تتراجع عن ذلك، لأن الحساب هنا استراتيجيٌ بحت، ويخص الصراع على العالم، وليس العلاقات الروسية-الإسرائيلية، أو حتى الصراع الشرق-أوسطي (إذا ما تجاوزنا انحرافات المصطلح).

هل لموسكو اهتماماتٌ أخرى في خيارها هذا؟

لا نتحدث هنا عن ملائكة. موسكو مهتمةٌ تماماً بتطوير العلاقات مع إيران، وهي بحاجةٍ إلى ذلك أيضاً. لكنها في المقابل مهتمةٌ أيضاً بإغراق أميركا باستنزاف استراتيجيٍ هنا، كما تحاول واشنطن استنزافها في أوكرانيا.

وإذا ما خرجت الأحداث عن سيطرة  واشنطن فإن مصير الحرب في أوكرانيا سيكون محصوراً بين خسارة الغرب أو إدخال “الناتو” إلى الحرب ضد روسيا.

‏وموسكو بخطواتها الحالية تسعى إلى تحقيق الاحتمال الأول. فماذا ستفعل واشنطن؟

التصريحات الأميركية الرسمية تظهر نزعتين متلازمتين وانقساماً في الإدارة، كما تظهر حرجاً شديداً حيال الخيارات:

‏⁃ النزعة الأولى تسعى إلى منع توسّع الصراع لأسبابٍ استراتيجية.

‏⁃ الثانية تسعى إلى دعم “إسرائيل” في سعيها لضرب قدرات المقاومة إلى الحد الذي يسهّل فرض الشروط عليها عندما تعود السياسة إلى العمل.

‏وفي الحالتين لا تظهر واشنطن حماسةً للمشاركة في حربٍ في المنطقة، لكن مواقف نتنياهو وإصراره على تكثيف الجرائم وتوسيعها يعبّر عن شعور بقرب نجاحه بجرّ واشنطن إلى هذه الحرب.

كمالا هاريس إن فازت فهي لا تريد المشاركة بحربٍ إسرائيلية ضد إيران كما يبدو من تصريحاتها الواضحة، وهي ترغب بوقف توسع الصراع قبل الانتخابات، أو حسمه قبل الخامس من تشرين الثاني/ نوفمبر من دون تدخّلٍ أميركي.

‏أما دونالد ترامب فيفضّل حسم نتنياهو للموقف بنفسه، لكنه يبدو مستعداً للمساعدة بصورةٍ حاسمة. لكن مسألة فوزه في الانتخابات تبدو لي شديدة الصعوبة لاعتباراتٍ كبرى.

زاويةٌ أخرى لامعة بعد. الاقتصاد العالمي والصين

‏مصير الاقتصاد العالمي مهددٌ بشدة، بعد اختيار طهران العودة إلى معادلة العين بالعين والسن بالسن رداً على جرائم نتنياهو الهستيرية وخيالاته.

‏الموازين الاستراتيجية الآن، وضع “إسرائيل” الداخلي وحجمها، البيئة الدولية… لا تتناسب مع هذا المستوى من الخيال الذي يختزن نهماً للتوسّع لا تقدر على طلبه حتى روسيا أو الصين.

‏كنا نقول على الدوام إن أيّ حرب أميركية إيرانية ستفوز بها الصين. والآن أي اشتعالٍ لمخزن الطاقة العالمي في المنطقة وممراتها، وخطوط التجارة فيها، سيقصم ظهر الاقتصاد العالمي. النار غير المسيطر عليها هنا ستحرق العالم من دون مبالغة، ثم لن تستطيع الصين البقاء بعيداً من ذلك، وهي إن تأخرت عن خطوة روسيا لفوارق كبرى في مجال الأمن القومي بين الدولتين، فإنها ستضطر في لحظةٍ ما إلى الدخول في اللعبة.

‏لكن مع ذلك، وحتى اللحظة، يبقى اختيار ساحة الحرب العالمية الثالثة بيد أميركا. وإذا ما أرادت واشنطن اختيار ساحة بوجه روسيا أو الصين (القوتين الأكثر تهديداً لمكانة أميركا العالمية) يجب عليها أن تردع نتنياهو الآن، ثم توقفه نهائياً بعد الخامس من تشرين الثاني/نوفمبر حين تستعيد أميركا نفسها من ضرورات الصراع الانتخابي المصيري. هذا إذا افترضنا أنها ستنجو من هذا الاستحقاق.

ماذا بعد؟

تحاول “إسرائيل” تحقيق انتصارٍ كبير بتضخيم الهول وبث الدعاية، وتسخّر من أجل ذلك آلةً إعلامة فتّاكة. حتى ضرباتها للمقاومة على القيادة العليا يمكن إدراجها ضمن خطط التحايل على الحقائق. إذ تريد بالاغتيالات والضجيج وبث الرعب في النفوس محو الحقائق الفعلية وتحييد القدرات.

‏بينما في الواقع، تثبت جبهة جنوب لبنان أن القدرة والأُمرة في مستوى عالٍ من الفاعلية. وخسائر “إسرائيل” في ثلاثة أيامٍ فقط تحكي نفسها.

‏في يوم تفجيرات “البيجرز” واللاسلكي قلت إنها فقاعة أمنية، والقصد أن هذا النوع من التدخل الأمني لا يفلح مع هذا النوع من المقاومات. تماماً كما لم تفلح أكبر الاغتيالات في تحييد القدرات وحسم المسألة.

‏الآن تعود الحرب إلى مسارها الذي خطّطت له المقاومة طويلاً، ويستعيد المحور قدرته على المبادرة مع استعداده لتحمّل العواقب حتى آخرها. تولّدت مناعة جديدة على الخسارة، في الطرف الذي كان يتفوّق تحديداً في هذه النقطة في الأصل.

‏استراتيجياً، الحسابات الأكثر حرجاً الآن هي عند واشنطن. حيث خياراتها كلها صعبة، تليها “إسرائيل” ثم إيران ثم حزب الله.

الميادين نت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى