الموازنة المصرية الجديدة: الفقراء يدفعون الثمن مجدداً!
في الوقت الذي تتصدر المشهد المصري أنباء أزمة جزيرتَي تيران وصنافير، وانتهاكات وزارة الداخلية، والأزمات السياسية المتنوعة، فإن أزمة عميقة تتفاعل، وتوشك أن تسبق أخبارها ما عداها من أخبار.
قبل أيام قليلة، شهدت مصر زيارتَين مهمتَين، الأولى للملك السعودي سلمان بن عبد العزيز، والثانية للرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند. صاحبت الزيارتين دعايةٌ واسعة للقيمة الكبيرة التي تحملهما، وحجم الاتفاقيات الاقتصادية التي أبرمت خلال كل منهما. لكن المفارقة، أنه عقب الزيارتين مباشرة، كان سعر الجنيه المصري يتراجع بقوة أمام الدولار الأميركي، ليصل سعر الدولار في السوق الموازية «غير الرسمية» إلى ما يقرب من 11.5 جنيهاً مصرياً، بعدما كان قبل الزيارتين أكثر قليلا من عشرة جنيهات، بينما ظل السعر الرسمي، الذي وضعه البنك المركزي حوالي 8.85 جنيه، على حاله.
من شأن إبرام اتفاقيات اقتصادية ضخمة مع قوى اقتصادية ذات شأن مثل السعودية وفرنسا، أن يؤدي الى تدفقات استثمارية ـ حتى ولم يحدث ذلك فورا بالطبع ـ بما يخفف الضغوط على العملة المحلية، ويدعم استقرارها.لكن المفارقة الحاصلة تعني أمرا من اثنين: إما أن الدعاية المصاحبة للزيارتين السعودية والفرنسية كانت مجرد دعاية سياسية لا تستند الى حقائق اقتصادية، أو أن أزمة الاقتصاد المصري أصبحت أعمق من محاولات الدعم من الأصدقاء أو التعاون من الشركاء.
الحقيقة الثابتة أن الأزمة الاقتصادية التي تقدمها البيانات الرسمية للدولة المصرية تبدو عميقة بالفعل. البيانات الرسمية لوزارة المالية تشير إلى وصول عجز الموازنة العامة للعام المالي الحالي إلى 11.5 في المئة، فيما تهدف الحكومة لخفضها في العام المالي المقبل إلى 9.8 في المئة.
كما تشير البيانات الرسمية الى أن خدمة الدين العام للدولة المصرية بلغت نسبتها من المصروفات نحو 28 في المئة، أي أكثر من ربع حجم الموازنة، في حين يتجاوز الدين العام الحكومي 90 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. وفي وقت تفيد فيه تصريحات وزير التخطيط بأنّ معدلات النمو للعام المالي الحالي ستصل إلى 4.5 في المئة، تقلل بيانات البنك الدولي من تلك التوقعات وترى أن معدل النمو للعام المالي الحالي لن تتجاوز 3.3 في المئة.
بحسب البيانات الرسمية والتقديرات الدولية، فإن الاقتصاد المصري يمر في أزمة حقيقية، ومع استمرار تراجع السياحة، وضعف تدفق الاستثمارت الخارجية ـ حيث خفضت وزارة الاستثمار توقعاتها تجاه تدفق الاستثمارات الأجنبية إلى سبعة مليارات من توقعات سابقة تتراوح بين 8 و 10 مليارات ـ وانهيار أسعار النفط وتأثيره على إيرادات قناة السويس وتحويلات المصريين في الخارج، فضلا عن تأثيره على قدرة دول الخليج الصديقة على دعم الاقتصاد المصري، وكذلك الأزمة العامة في الاقتصاد العالمي، فإن الأزمة الاقتصادية المصرية تصبح أكثر عمقا وعلاجها لا يبدو سريعا.
من الإنصاف القول إن عوامل الأزمة الاقتصادية ليست جميعها من صنع الحكومة المصرية، فعلى الأقل، هناك أزمة الاقتصاد العالمي وانهيار أسعار النفط، وبعض العوامل الداخلية الموروثة من أنظمة سابقة، ليست من صنع النظام الحالي. ولكن ما يصنعه النظام الحالي بالفعل هو الأزمات الناجمة عن طريقة معالجته للأزمة القائمة.
وفي هذا الإطار، فإن السياسات التي تطبقها الدولة لمعالجة الأزمة الاقتصادية تضع أعباء جديدة على الفقراء، في الوقت الذي تراعي فيه مصالح المستثمرين والأغنياء.
وبهدف زيادة إيرادات الدولة تتجه الحكومة المصرية الى تطبيق ضريبة القيمة المضافة، وهي الضريبة التي ستؤدي الى موجة تضخمية كبيرة، نتيجة تحصيلها على السلع والخدمات. وفي المقابل، قامت الحكومة المصرية بخفض الحد الأقصى للضرائب على الدخل إلى 22.5 في المئة، بعدما كان يصل إلى 30 في المئة.
يعني ما سبق ان ضعف إيرادات الدولة المصرية سوف تتحمله القطاعات الأفقر، بدلا من أن يكون على عاتق القطاعات الأغنى.
وفي سبيل خفض عجز الموازنة، تتجه الحكومة المصرية الى خفض الدعم على الوقود. وبحسب تصريحات وزير المال المصري، فإن دعم المشتقات النفطية سينخفض من 60 مليار جنيه في الموازنة الحالية، إلى 35 مليارا في مشروع الموازنة المقبلة، أي بنسبة خفض 45 في المئة دفعة واحدة.
واللافت أن هذا الخفض يأتي في الوقت الذي تتراجع فيه أسعار البترول. هذا الخفض سيؤدي بالتأكيد إلى ارتفاع أسعار النقل، وبالتالي ارتفاع أسعار الكثير من السلع والخدمات. هذا فضلا عن ارتفاع ملحوظ في قيمة فواتير الكهرباء والغاز والمياه، وهو ما أدى لحالة من التذمر، وظهرت حملات رافضة لرفع فواتير الخدمات والمرافق أشهرها حملة «امسك فاتورة».
في الوقت نفسه، جرى خفض سعر استهلاك الغاز الطبيعي للمصانع كثيفة الاستهلاك للغاز، في انحياز واضح من الدولة للمستثمرين على حساب القطاعات الفقيرة.
زيادة إيرادات الدولة وخفض عجز الموازنة وسائر أعباء الأزمة الاقتصادية تضعها الدولة على عاتق الطبقات الفقيرة، في الوقت الذي تقدم فيه المزايا والمكاسب للمستثمرين تحت شعار جذب الاستثمارات.
الحقيقة أن الأزمة التي تنتجها طريقة الدولة في معالجة الأزمة الاقتصادية قد تكون أعمق من الأزمة الاقتصادية نفسها، فهناك موجات التضخم المتتالية التي يتسبب فيها ارتفاع سعر الدولار أمام الجنيه، وما ينجم عنها من ارتفاع أسعار الواردات في دولة تعاني من عجز في الميزان التجاري يصل إلى 50 في المئة، ويضاف إلى ذلك ارتفاع جديد في التضخم ناجم عن رفع الدولة لأسعار استهلاك الكهرباء والغاز والمياه، ثم يأتي التضخم الناتج من خفض دعم البترول وتطبيق ضريبة القيمة المضافة.
وفي الوقت ذاته، تبدي الحكومة المصرية تبرمّها من نسبة الأجور للمصروفات في الموازنة العامة لتبرر عدم رفع الأجور لمواكبة التضخم، والنتيجة هي انخفاض الأجور الحقيقية وتدهور مستويات معيشة قطاع واسع ممن تسميهم الدولة محدودي الدخل.
إن تجربة السنوات السابقة، حتى ما قبل الثورة، تؤكد أن تحميل الفقراء أعباء الأزمة، والانحياز لكبار المستثمرين والأغنياء، لا يمران من دون ردود أفعال.
وبالرغم من الشعبية الجارفة لنظام الرئيس عبد الفتاح السيسي، فقد واجه قانون الوظيفة العامة الذي دافع السيسي عنه بنفسه ردود أفعال من الموظفين لما يعنيه لهم من احتمال انخفاض في الأجور فضلا عن إهدار استقرار علاقة العمل. وفي نهاية الأمر، لم تتمكن الحكومة من إقناع البرلمان الذي ينحاز للنظام بوضوح بالموافقة على القانون.
واما الإجراءات التي تتخذها الدولة لمواجهة الأزمة الاقتصادية، متجاهلة فيها ظروف وأوضاع القطاع الأكبر من المصريين، فقد تكون نتيجتها أزمة أكبر لم تنجح أنظمة سابقة في مواجهتها.
صحيفة السفير اللبنانية