«النجاح الروسي» في انتظار إدلب
طوى التدخّل العسكري الروسي المباشر في سوريا عامه الثالث بـ«نجاح». وعلاوة على النتائج الميدانيّة المهمّة التي أسهم هذا التدخّل في تحقيقها، فإنّ الأداء الروسي في المجالين السياسي والأمني يبدو لافتاً بدوره. وحتى الآن، يمكن القول إنّ موسكو أفلحت في الحيلولة دون تحوّل سوريا إلى «مستنقعٍ تغرق فيه»، فيما يظلّ الحكم النهائيّ على هذا الأمر معلّقاً في انتظار مآلات الوضع في إدلب.
قبلَ ثلاثة أعوام، كانت تحليلات وآراء كثيرة تُراهن على أنّ التدخل العسكري الروسي المباشر في سوريا «لن يستمرّ طويلاً». وقتذاك، انشغلت وسائل إعلام عالميّة في تناقل «تصريحات» منسوبة إلى مسؤول روسي «مقرّب من الرئيس فلاديمير بوتين» يؤكّد فيها أنّ عمر العمليّات الروسيّة في سوريا «لن يتجاوز مئة يوم»، وأنّ الهدف من رسم إطار زمني محدّد هو «عدم الغرق في المستنقع السوري». أمس، دخل الحضور العسكري في سوريا عامه الرابع، ليسجّل عدّاد الأيّام قُرابة 1100 يوم، بما يتجاوز عشرة أضعاف «الإطار الزمني» المُشار إليه، ومن دون أن توحي المؤشّرات بأنّ الانخراط الروسي المباشر قد ينتهي قريباً. لم يكن «الإطار الزمني» وحده ما كُسِر، إذ تكفي نظرةٌ سريعة على خريطة السيطرة السوريّة للتسليم بنتيجة شديدة الوضوح، مفادُها أنّ التدخّل الروسي قام بدور أساسيّ في قلب الموازين رأساً على عقبٍ بالفعل، ليكسر بذلك سقوف معظم التوقّعات. وخلافاً لكثير من الرهانات، فإنّ سوريا لم تتحوّل (أقلّه حتى الآن) إلى «مستنقع» تغرق فيه موسكو، بل هي على العكس من ذلك باتت حاملاً أساسيّاً لتثقيل الحضور الروسي في الموازين العالميّة، سواء في ما يخصّ تعزيز حضورها في «المياه الدافئة»، أو زيادة أسهم الأسلحة الروسيّة في «سوق السلاح العالمي»، أو فتح الباب أمام عودة موسكو إلى لعب دور أكثر فعالية في خريطة العالم السياسية.
وحتى اليوم، لا يزال تحصيل المكتسبات السياسيّة هدفاً أساسيّاً على سلّم أولويات روسيا في سوريا. وهو أمر يمكن ردّه إلى فهم موسكو حقيقة أنّ «الانتصارات في الميدان تظل في حاجة إلى إطار سياسي يحصّنها»، ما يُفسّر سعيها منذ تدخّلها العسكري إلى خلق مسارات موازية للمسار الدولي المتمثّل بـ«جنيف». ويبدو مسلّماً به أنّ اللاعب الروسي يعي أنّ «التوافقات الموضعيّة» لا تبدو صالحةً لأكثر من مرحلة انتقالية يمرّ عبرها الملف إلى عتبة الحل السياسي، أو ينجرف إلى جولة جديدة من الحرب بمعطيات وعناوين مختلفة. المفارقة أنّ الحديث عن «إنجازات روسيّة» في الميدان السوري لم يكن وارداً بـ«السلاسة» التي سارت بها الأمور (في العام الأخير تحديداً) لولا التوافقات المُنجزة مع اللاعب التركي في شكل خاص. وثمة كثير من المعطيات التي دفعت روسيا إلى التناغم مع تركيّا، وعلى رأسها الخوف من تكرار سيناريو هزيمة الاتحاد السوفياتي في أفغانستان (وهو سيناريو قامت باكستان بدور فاعل في إنفاذه، وكان وارداً أن تكرّر تركيا القيام به في سوريا). وعلى نحوٍ مشابهٍ للحالة التركيّة في الشمال، كان للتوافقات التي وصلت إليها موسكو في الجنوب دور أساسي في إقفال ملف الحدود السوريّة الأردنيّة بـ«أقل الأضرار الممكنة».
ولا يمكن استعراض الأداء الروسي في سوريا من دون الإشارة إلى تفصيل شديد الأهميّة، وهو غياب تسجيل خروقات أمنيّة فعليّة في المناطق التي خرجت الحرب العسكريّة منها، أو في المدن الكبرى. ويمكن ردّ ذلك إلى عاملين أساسيّين، أوّلهما التوافقات السياسية التي وصلت إليها موسكو مع اللاعبين الإقليميين والدوليين الداعمين للمجموعات المسلّحة، وثانيهما شبكة العلاقات الواسعة التي نسجتها موسكو مع كل المجموعات التي انضوت في «التسويات» المحليّة. ويبدو لافتاً أنّ شبكة التوافقات التي أنجزتها روسيا في سوريا لم تقتصر على دول الجوار فحسب، إذ أدّى لاعبون إقليميّون آخرون أدواراً مؤثّرة على بعض المحاور، (مصر في الغوطة، الإمارات في درعا، الكيان الإسرائيلي في القنيطرة)، وإيران على كل الجبهات المذكورة بطبيعة الحال. وبرغم التباين في بعض الأولويات بين روسيا وإيران، فإنّ الطرفين لا يزالان متفّقين على هدفٍ مُشترك أساسي هو «مساندة دمشق»، الأمر الذي تعدّه الأخيرة «نتيجة طبيعيّة للتحالفات الاستراتيجيّة الكبرى القائمة بين دمشق، وكلّ من البلدين الصديقين» وفقاً لما يقوله مصدر دبلوماسي سوري لـ«الأخبار». ويبدو أن الرهان الروسي على أنقرة لا يزال قائماً، برغم التعقيدات التي تجعل من تركيّا «شريكاً غير مضمون» قياساً على الأداء التركي في الملف السوري. وأدّى الحرص الروسي على إيلاء التنسيق مع تركيّا أهميّة كُبرى إلى تعليق ملف محافظة إدلب في منطقة وُسطى بين «الحرب والسلم»، برغم رغبة دمشق وطهران الملحّة في إطلاق شارة بدء العمليّات العسكريّة. لا يشذّ المصدر الدبلوماسي عن التصريحات السوريّة المعهودة لدى الحديث عن «الحلفاء» و«الأعداء»، فيؤكّد أنّ «اتفاق إدلب الأخير هو اتفاق مؤقّت عُقِد بالتنسيق والتشاور بيننا وبين حلفائنا، وهو تنسيق دائمٌ ومُستمر». ويضيف «كلّ القرارات المفصليّة في شأن تسخين الجبهات أو تبريدها يتم اتخاذها بالتشاور بيننا وبين الحلفاء، مع التمسّك بهدف استراتيجي واضح هو القضاء على الإرهاب». لا يرى المصدر أيّ مبرر للتساؤل عن مستقبل علاقة دمشق بموسكو، ولا أي داعٍ للقلق من «زيادة النفوذ الروسي في سوريا»، يقول إنّ «إثارة هذه الملفّات هي جزء من محاولات الحرب النفسيّة، فالعلاقة بين دمشق وموسكو هي علاقة حليفَين يخوضان حرباً مشتركة، وحين ستنتهي هذه الحرب بالقضاء على الإرهاب ستصبح علاقةَ حليفين في محورٍ واحدٍ خرج منتصراً من معركته ضدّ الإرهاب». ومع أهميّة كلّ ما تحقّق في الميدان السوري حتى الآن، فإنّ «اختبار إدلب» يبدو أشبه بـ«بيضة القبّان»، وسيكون من شأن مآلاته النهائيّة أن تتيحَ تقويماً دقيقاً للتدخل العسكري الروسي بأكمله. وبرغم أنّ أجزاء أخرى من الجغرافيا لا تزال خارج سيطرة الدولة السورية، فإنّ خصوصيّة إدلب تؤهلها لتكون الثغرة المحتملة الأخيرة لتسلل سيناريو «الأفغنة» إلى سوريا، ولا سيما في ظل تحوّلها إلى ملاذ أخير للجماعات «القاعديّة» المتطرّفة.
صحيفة الأخبار اللبنانية