النسق الأسطوري في رواية “قوس الرمل”

 

تظل الأسطورة -وينطبق هذا على التراث عامة- ذاكرة للتجارب الإنسانية الأولى، وهي تختزن رموزا ذات طابع إنساني يتخطّى حاجز الزمان والمكان وتطرح أسئلة ما تزال تشغل الإنسان المعاصر. يصفها راثفين في كتابه “الأسطورة”، “إنها ميراث الفنون وإنها معين لا ينضب للأفكار المبدعة والصور المبهجة وللمواضيع الممتعة”، ويأتي السارد الفنان أو الشاعر كي يستلهم هذا الإرث الزاخر منتقيا منه ما ينسجم مع تجربته الفنية موجها إياه صوب المغزى الذي يريد. وهذا تماما ما فعلته الروائية الإماراتية لولوة المنصوري التي أصدرت روايتها “قوس الرمل، ملهاة المهد والماء” عن دار العين للنشر 2017، وقد فازت هذه الرواية بجائزة الإمارات للرواية، وكانت قد أصدرت رواية “آخر نساء لنجة” وروايتها الأخرى “خرجنا من ضلع جبل”، كما أصدرت مجموعتين قصصيتين هما “القرية التي تنام في جيبي” وقد فازت بجائزة دبي الثقافية، ومجموعة “قبر تحت رأسي” التي فازت بالمركز الأول في جائزة الشارقة للإبداع العربي.

ومنذ عنوان الرواية “قوس الرمل، ملهاة المهد والماء” تحس بأنك أمام روائية طموحة تسعى إلى أن تمنح روايتها سمة عالمية تخصّ الإنسان حيث كان وإن حرصت أيضا على أن تحتفظ روايتها بسمات بيئتها المكانية في الوقت ذاته. فعنوان الرواية يرتكز إلى رموز حياتية كبيرة تخصّ الإنسان العربي خاصة، وهي الرمل والماء، وما المهد إلا إشارة إلى بدء الحياة واستمرارها عبر وجود الماء الذي يرتبط بديمومة الحياة، وتحيل مفردة الملهاة إلى كوميديا دانتي أليجيري، ويتأكد لنا ذلك عبر إهداء لولوة المنصوري روايتها، فهي مهداة إلى “نمو”، ونمو هذا هو الكون العميق، وقد عرّفته الكاتبة في هامش متنها السردي بأنه “إلهة المياه الأولى في الألواح السومرية”.

ولا نبذل جهدا كي نكتشف أن هاجس الروائية لولوة المنصوري هو تجنب المكرور والمعاد والرتيب، ولذلك فهي تتفنن في كسر المألوف السردي بحثا عن ملامح خاصة لروايتها “قوس الرمل”، فقد اختارت عناوين فصولها من لوازم الماء، وبدأت بالمصب الرابع “عام الدود” وصولا إلى فصلها الأخير المصب الأول “عام الأحافير”، وهي مشاكسة مقصودة هدفها الطرافة والمغايرة وخرق المألوف من الأساليب السردية السائدة، وهي سمات تغلب على أجواء الرواية وطبيعة رسم شخصياتها وبناء أحداثها وعنوان فصولها. إذ لا شيء يضير بالرواية والفن عامة كالنسق الرتيب المعاد، ولا مناص للفنان الأصيل من البحث عن منابع جديدة لفنه تقيه من ملل القارئ وإحساسه بأن الكاتب إنما يزيف الحياة حين ينمطها ويكرر الصورة السائدة عنها.

معظم شخصيات رواية “قوس الرمل” ذات قطبين: أحدهما القطب الواقعي والآخر هو القطب الأسطوري المتخيل أو المستمد من التراث الأسطوري الموروث، ومن الواضح أن الكاتبة تعي هذه المفارقة وتقصدها لأنها ما إن تفصح عن ملمح واقعي من ملامح شخصياتها  حتى تردفه بسمات متخيلة ذات طابع رمزي، فهذه الحاجة حليمة -على سبيل الاستدلال- تردّ من خلال وعي السارد بها -داخل النص- “أرى الحاجة حليمة تقف بملاءة فضفاضة خضراء، مثبتة على وتد تشبه فزاعة الحقل في وضعها ذاك… تراءت لي طيور سوداء قادمة من الأفق البعيد، طائر أسود منها ينقضّ على رأس حليمة، ينبش في شعرها المبلل وينقر وينقر، كل ما سمعته هو ذلك النقر السريع الرتيب، إلا أن حليمة لم تبد أيّ حراك أو ألم، كانت في هدوء غريب!”، وهذه آلية تقنية تجمع بين الحلم واليقظة، وهو ما نفهمه من السطر الأخير في الصفحة التالية “انهض يا ولدي، لقد أكل الدود زوج حليمة”.

ولو بحثت عن خيط يربط كل هذا الزخم من الشخصيات داخل متن رواية “قوس الرمل” لما وجدت سوى أنها نماذج إنسانية انتظمت تاريخ الإنسان منذ أن وعى ذاته عبر أساطيره وصولا إلى الإنسان الآن. فثمة أسماء لشخصيات أسطورية مثل شمش وسين ونرغال وننورتا، ترد على لسان والد السارد وعبر حوار خارجي (ديالوج) “إنها الآلهة القديمة عند العرب التي تحفظ العابرين على حد اعتقادهم، والتعويذة كتأمين نحو الجهات السماوية الأربع، شمش إلهة الشمس وسين إلهة القمر ونرغال حاكمة عالم الموت تحت الأرض وننورتا ابنة إله الهواء إنليل”، وتستحضر الروائية أسماء لأبطال من التراث الأسطوري الإغريقي مثل سيزيف، ونبتون إله الماء، وهناك حكايات منذ زمن نوح وموسى عليهما السلام، كما يرد ذكر قوم عاد وثمود، لقد ضمت الرواية آراء وفلسفات وحكايات من الشرق والغرب ومن الماضي والحاضر، وهي حين تستعيدها فكأنها تعيد قراءتها، ويقوم القارئ بالدور ذاته حين يقرأ كل هذه المكتبة المتضمنة في هذه الرواية، وينطبق عليها قول إميرسون في أنها تشبه حجرة سحرية تختبئ فيها العديد من الأرواح المسحورة، أرواح تستيقظ عندما تُنادى، وبالإمكان القول بأن كل نص، وكل إعادة قراءة تجدّد النص، فالنص هو نهر هرقليطس المتغير. حسب تعبير  خورخي لويس بورخيس في “أسطورة الأدب”، المنشور بتقديم وترجمة محمد آيت لعميم، المطبعة والوراقة الوطنية، مراكش 2006.

 

وأما أحداث هذه الرواية فإنها تميل إلى أن تكون أحداثا كونية أكثر منها أحداثا خاصة، أو كما عبر أمبرتو إيكو وهو يصف بورخيس بأنه اتخذ من الثقافة العالمية مادة لنتاجه الفني، وهو ما تتبناه لولوة المنصوري، فهذا عام الدود الذي استأثر بالفصل الأول من الرواية ربما يرمز إلى ما حل بالبشرية من كوارث وأوبئة كالطاعون والكوليرا والجدري.. الخ، فتحصد آلاف الناس، فضلا عن الكوارث الطبيعية كالبراكين والفيضانات، ويتكرّر ذكر حدث الحرب في الرواية إشارة إلى أقدم الكوارث وأحدثها في الوقت ذاته وأكثرها ضررا على البشرية، وهو موقف الرفض للحرب بكل أشكالها. وترتكز أحداثها على مهاد زماني هائل يبدأ من أقصى الماضي ويمتد إلى أقصى المستقبل.

تفصح لولوة عن قدرة خاصة وموهبة في ابتكار الأخيلة وعبر أسلوب سردي متدفق، فهي لا تعاني في صياغة جملتها السردية ولا تعاضل في انتقاء مفرداتها. وثمة تقنيات طباعية أفادت منها الروائية الإماراتية لولوة، كأن تترك سطورا فارغة تحفز المتلقّي على أن يستنتج منها تصوّره الخاص لشخصياتها وأحداثها، وهو أمر صرحت به لولوة عبر سطور سردها مما يدل على أنها تعي هذه المسألة وتقصدها، وأعني بذلك إيمان الساردة بأن للمتلقّي دورا مؤكدا في تشكيل صورته الخاصة للرواية، ولا سيما في رواية كرواية قوس الرمل التي تفتح الباب واسعا أمام قراءات متعددة وتفسيرات مختلفة لحشد الرموز التي وردت فيها.

بيد أن القارئ قد يجد نفسه في رواية قوس الرمل أمام غموض كثيف لا يشفّ عما وراءه، ولسنا بصدد إنكار حق الكاتبة في أن تختط لها نسقا سرديا خاصا بها، وأن تكون لها بصمتها في الكتابة الروائية العربية والخليجية خاصة، بيد أن الغموض الذي قد يكتنف بعض مشاهد الرواية يدعونا إلى أن نعتقد بأن الغموض الشفاف الذي ينمّ عن رمز واقعي متاح قد يعزز عالمية الرواية ذات الصدى الإنساني المعبّر عن رحلة الإنسان بوجه عام في هذه الحياة.

ونجد في رواية “قوس الرمل” رسوما ذات صلة بما يرد في السرد من أسماء آلهة قديمة أو الطوفان وبركان عدن وقاع الماء وربما جهات أربع بدون كلمات أحيانا، وثمّة حروف تردّ في الصفحات الأولى من الرواية تبدو وكأنها طلاسم السحرة إذ يصفها السارد -داخل النص- بأنها “تتداخل ببعضها، تلتوي ولا تفضي لمعنى واضح! أو ربما مجرد دوائر ذات جهات أربع”.

وهناك ظاهرة تدخل السارد داخل النص، إذ يوقف سرده لأحداثه ويبدأ بالتحاور مع شخصياته في أكثر من موضع من الرواية، تأمل هذا الحوار الطريف بين السارد داخل النص وإحدى شخصياته “إن كنت ستدفنني مع حقول الدود، فأوقف هذا السرد العقيم، أريد أن أنزل” ههههه لن أفعل، دائما أتساءل: أبإمكان الرواية التي أكتبها أن تسرب سيل روحي القلقة إلى القارئ؟” وهذا توصيف دقيق لطموح الكاتبة وهدفها الأساس من الرواية. وتكاد لولوة المنصوري أن تصرح بتقنيتها الروائية هنا في هذه الرواية “تظل روحي منجرفة في القلق، وأخاف كل الخوف من الحبكة التي سأرميها في السرد، أحيانا أفكر في أن أستغني عن العقدة وأن أنسج روايتي هذه بلا عقد وتجاعيد، وأن أرحم البشر الذين خلقتهم في أرض الرواية، وأتركهم آمنين مطمئنين من انقلاب الحال والدواهي”.

وهي هنا تؤكد ما يستنتجه القارئ من خلوّ رواية قوس الرمل من عقدة ترد في أغلب الروايات التقليدية، إذ تتصاعد أحداث الرواية حتى تصل إلى عقدة ما تمثل ذروة الحدث، وبعد ذلك تسير الأحداث صوب خاتمة الرواية في نمطين من الحدث أحدهما الحدث الصاعد قبل العقدة ثم الحدث النازل بعد العقدة وهو المفضي إلى نهاية الرواية. فضلا عن غياب الحبكة، والمقصود بالحبكة وفي أبسط تعريفاتها منطقية الأحداث وارتباطها ببعضها بحيث يمهد كل حدث سابق لحدث لاحق يليه.

وتتّسم رواية “قوس الرمل” بشعرية متدفقة مقصودة، بمعنى أن نسقها السردي  يتداخل مع النسق الشعري، ويمكن أن تقتطع من الرواية نصوصا تتسم بلغة شعرية وكأنها قصائد نثر. وقد عد تودوروف “الشعرية” قاسما مشتركا بين النصوص الشعرية والنصوص النثرية، ولهذا فإن الشعرية عند تودوروف تستفيد وتستثمر كل العلوم المتعلقة بالأدب.. التي تجعل من الأدب فنا جماليا يتميز عن الكلام العادي”.

ولا تجد صعوبة في اقتناص الصور الشعرية في إطار سرد هذه الرواية، ليس فقط على صعيد الوصف الذي قد يتطلب مثل هذه الصور الشعرية، بل تتضمّنه كل الأدوات الفنية التي شكلت هذه الرواية، بدءا بالشخصيات ومرورا بحركتها في تشكيل الحدث الروائي أو حديثها الذي يشكل عنصر الحوار بنمطيه الديالوج والمنولوج وعلى حد سواء، تأمل كيف ترد صورة الصحراء داخل النص “الصحراء موطن الأسئلة الغامضة، أحن إلى شيء بعيد لا أدري ما هو؟ الروح ربما؟ الروح الكامنة في عشبة صغيرة تستنهض نفسها في الصحراء، أو ربما في حبة الرمل التي تحمل على ظهرها هذا العالم، وتلخص مع الرياح كل شتات الروح، تعرف تاريخ الأمم الهالكة تحتها والقائمة فوقها”. فضلا عن ثنائية الواقعي والأسطوري التي انتظمت هذه الرواية إذ تجد فيها حشدا من المعتقدات والحكايات الخرافية والشعبية والأمثال التي تشكل مهاد هذه الرواية والأرضية التي استندت إليها، وتحس بأنها جميعا رموز هدفها التعبير عن همومنا الآن، ولكنه تعبير مختلف وخاص استثمرته هذه الرواية.

ولأن الروائية لولوة المنصوري في أول مشوارها السردي وقد حازت على جوائز وتكريمات عن معظم أعمالها السردية فإن مستقبلها السردي سيكون مفتوحا تماما على الاحتمالات الإيجابية التي ترشّحها لكتابة نص روائي عالمي، لا سيما إذا ما تحكمت برموزها وشكلت حبكة أحداثها الخاصة بها وبما يتناسب مع أخيلتها وجنوحها صوب الأسطورة والأفكار الأولى التي دارت في خلد الإنسان، وما يزال تأثيرها ماثلا وفاعلا حتى عصرنا هذا بكل ما فيه من ملامح لا تشبه أيّ عصر آخر قد سبقه.

بانتظار الآتي من نتاج الروائية الإماراتية لولوة المنصوري التي هي وبلا ريب تكتب بشكل مختلف عن مجايليها من الروائيين وكتاب السرد العرب والإماراتيين على حد سواء، بحيث تحس بأن لولوة تبحث عن أسلوبها السردي الخاص بها الذي يمكن أن يحمل ملامح المكان بنكهته المستقاة من تراثه ومعتقداته وجذوره الممتدة عبر العصور. ويضم نصها السردي رؤية تنبؤية نقرأها على غلاف الرواية الخلفي، يرد فيه “ولربما تقبل الصحراء على رؤية أكبر، قبس جديد سيولد من رحمها وتراه أنت أو القادمون من بعدك.” فتحفز القارئ على أن يستعد للجديد القادم، وهو آت لا محالة انسجاما مع منطق الحياة المتغيرة بالضرورة وعبر العصور.

مجلة الجديد اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى