‘النشوة المادية’ .. كتاب خارج فكرة الأنواع الأدبية وتصنيفاتها الكلاسيكية
يقدم الروائي الفرنسي لوكليزيو الحاصل على جائزة نوبل في الآداب عام 2008 في كتابه “النشوة المادية” فكرة طويلة كتبها في شكل كتاب ينصح فيه قارئه بأن نولي اهتمامنا لما هو مادي أكثر مما هو معنوي، وأننا يجب أن نؤمن بما هو موجود بالفعل ولا يصح بأن نطالب بأكثر من ذلك.
وقد قسم الكتاب الصادر عن دار العربي للنشر إلى 11 عنوانا أو فصلا تناول خلالها العديد من الأفكار إضافة لفكرته الرئيسية مثل المرأة وجسدها والحب والموت والصمت والوعي، فمثلا في فصل بعنوان “اغتيال ذبابة” أخذ لوكليزيو يتأمل الذبابة التي ضربها على الطاولة، وقد أوحى إليه ذلك بفكرة أننا لا يمكننا تحقيق المطلق ولا يمكن إثبات الصفات المجردة مثل السعادة سوى من خلال معرفتنا أننا على قيد الحياة.
وعلى الرغم من كون الكتاب ينطلق من رؤية تأملية فلسفية وتفاعلية إلا أن الروح الإبداعية المتدفقة للوكليزيو تتجلى بشكل واضح، حتى لكأننا أمام مجموعة نصوص إبداعية تتأمل الحياة وتطرح تساؤلاتها وانعكاساتها على الجسد والروح، الأمر الذي يجعل قارئها في حالة تساؤل وجدل ومتعة طوال الوقت، يقول في فصل “الصمت”:
“عندما أكون ميتا ستتوقف عن كراهيتي هذه العناصر، عندما تنطفئ حياتي بداخلي، عندما أبعثر في النهاية هذه الوحدة التي كانت قد منحت لي، حينئذ تغير الدوامة مركزها ويعود العالم لوجوده”.
وفي فصل “الوعي” يقول: “هناك دائما الأسئلة التي لن نطرحها أبدا، هناك كل ما لا نستطيع إدراكه من شك، من يأس، تداعي. كل ما لا نتخيله من جحيم ومن لا تناه. لا يستطيع الفعل أبدا أن يصل للانهائي ذلك الذي يراه ويقابله. لا تزال الشفافية خطأ. لا يمكن للشك أن يرضى إذا.
لا ينبغي لشيء أن يلطف في هذا المجال. لا ينبغي لشيء أن يستقر قطعا. إنها في المؤقت، غير المستقر، المضطرب، الجهل اختبأت بذور الحقيقة وكما التقدم هذه الحقيقة بلا نهاية”.
أما في فصل الكتابة فيقول “الرمال شيدتني، أعرفها، الدم الهائج، المفاصل، الأعضاء المشعرة، الأفكاك المثلثية الثقيلة ذات الأنياب الحادة، عدد السكان المنخفض بداخلي، وفوق كل شيء، هذا الخلاء المهين الذي يرتعش في أعماقي كهواء ساخن، هذا المستنقع اللانهائي شديد البياض، هذا الكفن من الحروق والجليد، هذه الماسة العظيمة، أشعر بها جميعا، هذه القيود الحديدية القوية أراها، هذه الحداء، إنها تؤذي إنها تدمر، لكن الآن أنا متأكد من ذلك، لو أريد أن أنتصر، لو أريد أن أنتزع، لو أريد أن أبسط ثقلي هائل الضخامة، إنه أنا لن يأتي أي شيء من الخارج..”.
وقد أبدع مترجم الكتاب لطفي السيد منصور في ترجمته فتوافق مع ما هو معروف عن لوكليزيو من عمق دلالات رؤيته وتعقدها أحيانا، ويُعتبر وفقا للمترجم واحدًا من الكتاب القلقين للغاية، حتى أنه تناول، في فترة مبكرة من حياته، الوجود الإنساني، وعلاقة هذا الوجود الإنساني بمكانه في الكون، وكيفية هذه العلاقة ومساراتها وتعرجاتها وتذبذبها علوًا وانخفاضًا.
ولفت لطفي السيد إن لوكليزيو في كتابه أو نصه التأملي هذا “النشوة المادية” والذي كتبه عام 1967، حيث كان حينئذ في السابعة والعشرين من عمره، يثير مجموعة من التساؤلات حول الإنسان، الثقافة، السعادة، الكتابة، النظرة، الجسم، العقل.. إلخ، حول الوجود الإنساني.
ويبدأ كمدخل لهذا الكتاب/ النص بمرحلة ما قبل ميلادنا، مرحلة العدم، بينما تسلمنا الخاتمة على نحو حتمي إلى الموت، من العدم إلى العدم، حيث يقول في الفقرة الأولى من الكتاب: “حينما لم أكن قد وُلدتُ بعد، عندما لم أكن قد أغلقتُ بعد حياتي في شكل حلقة، وحيث ما يكون متعذرًا المحو، لم يكن قد بدأ بعد في أن يُنقش؛ عندما لم أكن أنتمي لأي شيء مما هو موجود، لأني لم أكن حتى مدركًا، ولا قابلًا للإدراك، ولأن هذه المصادفة، التي أحدثتها تفاصيل دقيقة بلا حدود، لم تكن قد بدأت، حتى عملها. عندما لم يكن لديَّ ماضٍ، ولا حاضر، ولا مستقبل، خاصة عندما لم أكن؛ عندما لم أكن أستطيع أن أكون؛ تفصيلة لا يمكن تبصرها، بذرة مختلطة في البذرة، احتمالا بسيطا يكفي شيء زهيد أن يجعله ينحرف عن مساره. أنا أو الآخرين”.
وفي الفقرة الأخيرة يقول: “وهكذا، شيء فشيء، بينما تموج حياتي، شرعت في الرحيل. شرعت في الانزلاق على طول قضباني، ببطء، برقة، ولن أتوقف. أثناء السير إزاء ذرات التراب والطاولات، أثناء السير، النزول نحو ألواح الحديد الزهر، نحو الأرصفة الأسمنتية، نحو الشجيرات القصيرة والحصوات الترابية، في الطريق نحو عجاج الجزيئات متعذرة التدمير، أغوص في الأرض، أختفي، أختفي، أغادر..”.
وأضاف لطفي السيد أنه ما بين هاتين المرحلتين يتساءل لوكليزيو: ما الذي أتينا لنفعله على هذه الأرض؟ ماذا علينا أن نفعل كي لا يكون وجودنا مجرد نقطة غير محسوسة في العالم؟ ما هو مكان الكاتب؟
وقال “في بعض الأحيان يكون الكتاب صعبًا إلى حد ما، حيث يمزج الميتافيزيقا بالشعر، كما يظهر التكرار بوصفه سمة أسلوبية في الكتاب.
في رأيي هذا كتاب خارج فكرة الأنواع الأدبية وتصنيفاتها الكلاسيكية، فلا يمكن أن نطلق عليه سوى أنه نص مفتوح، ربما هو قصيدة نثر طويلة أو سرد لعملية نشأة الكون من العدم واختفائه في العدم، وقد يبدو بحثًا فلسفيا يحاول من خلاله لوكليزيو أن يفهم ذاته/ العالم أو يفككهما، ويفكك بعض المفاهيم التي قد تساعده على فهم ذاته أو فهم هذا الوجود أو ربما تساعده على العيش، فعلى سبيل المثال هكذا يرى الفن: “الفن ليس تعبيرًا فريدًا عن المطلق، ليس رسالة إلهية، لكنه نتيجة الجدل المبهم والمضني للإنسان في محيط الإبداع”.
ولننظر كيف يرى المرايا: “ما كان ينبغي، إنه كسر نوافذ الشر هذه مرة واحدة وللأبد؛ إخفاء، كسر، تلطيخ، المرايا، تضبيب الزجاج والقصدير، والبقاء في العرض بلا شاهد، لكن أيمكن كسر مرآة؟ أليس واضحًا أنها لا تُدمر؟ إنها هناك، في كل مكان، من حولي؟ الأشياء مرايا. الكتب مرايا. أجسام الآخرين، عيون الآخرين مرايا. يدي مرآة. في كل مكان حيث أحدق، عندما يأتي إلى داخلي هذا الأرق المضاعف، لا أرى سوى ذاتي تنظر لي. شياطين وعيي العائدة تسكن العالم بأكمله. مجالها المرئي، المحسوس، المسموع. إذًا كل جزيء من العالم في مواجهتي، ويسخر. ولا أستطيع الفرار من السخريات”.
وأشار لطفي السيد أن لوكليزيو في هذا النص قد يبدو أنه جلس ليتحدث في حالة من الفضفضة أو الاسترسال أو يكتب هكذا إعتباطًا، لكن عند قراءة النص نجد أن كل كلمة وكل عبارة أو صورة محسوبة على نحو دقيق. هل حقا كما يقول لوكليزيو في الفصل المعنون بـ ” اغتيال ذبابة”: “البهجة لا تدوم؛ الحب لا يدوم؛ السلام والثقة في الله لا يدومان؛ القوة الوحيدة التي تدوم، إنها قوة التعاسة والشك”.
يذكر أن لوكليزيو ولد عام 1940، وحصل على جائزة نوبل للآداب عام 2008، وكان قد اشتهر بعد نشر روايته “الصحراء” عام 1980 التي اعتبرتها الأكاديمية السويدية تقدم صورا رائعة لثقافة ضائعة في صحراء شمال أفريقيا، كما حصل على العديد من الجوائز الأخرى بداية من روايته الأولى” الاستجواب”، والتي حصلت على جائزة” الروندو”.
ميدل ايست أونلاين