النص الأدبي ونفي العالم
تشكّل الرواية قريناً مُتخيّلا لعالمنا المتماسك سياسياً، هذا القرين يسعى لإعادة تكوين العالم وتغيير عناصره والعلاقات بينها، وكأن الرواية أداة سحريّة قادرة على تغيير تصنيفاتنا وتعريفاتنا وحدود إدراكنا، وكلما ازدادت مساحات المخيّلة وشدة نفي هذا العالم، ازدادت قدرة الرواية على كشف حدود ما نحياه ونختبره، وفضح علاقات القوة التي تجعل ما حولنا ظاهراً بالشكل الذي هو عليه.
صدرت مؤخرا للروائي المصري أحمد مجدي همّام روايته “الوصفة رقم 7″ عن الدار المصريّة اللبنانيّة، والتي يكتشف بطلها وصفة سحريّة لمخدّر يأخذه إلى عالم عجائبيّ، يخوض فيه مغامرات تشحذ حدود المخيّلة. مجلة “الجديد” التقت مجدي همام في حديث عن الرواية والمخيّلة وتقنيات السخرية من عالمنا المفرط في جدّيته.
نتلمس في “الوصفة رقم 7″ ملامح من اللعب الجديّ، وانصياعا للمخيلة وعوالمها ومحاكاة ساخرة لمحركات الواقع ومفاهيمه -كالتجارب العلميّة الجديّة-، فهل هذه النسخ الساخرة من الواقع وجمالياته قادرة على تفكيك مسلماتنا “الجديّة”، يجيب مجدي همام بقوله إن الطريقين مهمان ويقودان إلى ذلك التفكيك، فالمحاكاة الساخرة وسيلة، أداة فعّالة ومحفّزة على الحفر أيضا، بل هي في حد ذاتها حفر، وبالمثل فإن إيجاد وسائل أخرى للتفكيك أمر حيوي. لكنّ المهم هو إدراكنا أننا أمام اقتراح أو احتمال، فالنص الأدبي هو وجهة نظر في النهاية، مجرد احتمال مدعّم بمنطقه الداخلي ومصنوع على شكل رؤية كاملة تحاول أن تكون متماسكة ومقنعة.
يتلاعب مجدي همام في “الوصفة رقم 7″ بالوعي في العالم، عبر مخدّر يأخذ بطله إلى عوالم جديدة، وهنا سألناه عن مدى تشوه إدراكنا لما حولنا، الاحتمالات البديلة التي قد تقدمها أشكال الوعي الجديدة سواء كانت روائيّة أو كيميائيّة، فيعقّب بقوله، إن الاحتمالات لا نهائية، والرواية هي فن الاحتمالات، الفن الأدبي الوحيد الذي يرفض الاكتمال، وفق باختين لها ألف أُس، ألف من الأشكال، ويضيف “إدراكنا ابن معطيات تختلف من شخص لآخر، البيئة والاستعداد والثقافة والكثير من العناصر التي تجعل هذه الحياة 7 مليار نسخة، كل نسخة تخص واحدا فقط من الـ7 مليار إنسان في هذا الكوكب. كل واحد في نسخته هو الـ’player one’ واللاعب الرئيسي والآخرون كورال و’سنّيدة’ و’anti-hero’ وباقي العناصر التي تشكّل اللعبة”.
تتخلل “الوصفة رقم 7″ إحالات إلى الثقافة الشعبيّة والعوالم الروائيّة، ويرى مجدي همام أن الاقتباس وحده لا يكفي، لذلك وظّف التناص والإحالات والمحاكاة، وحاول أن يكون لـ”الوصفة رقم 7″ أكثر من مستوى للقراءة والتأويل، هي طبقات مثل مستويات التربة في الجيولوجيا، طبقة أولى هي الحكاية، مجرّدةً من أي معان مستبطَنة، ثم طبقة أخرى متعلقة بالإشارات بين السطور والإحالات، وهي طبقة تحتاج إلى مستوى معين من المعرفة أو الثقافة لكي ينجح المتلقي في التقاط الغمزة وتفسيرها أو على الأقل ترجمتها داخليا إلى ما يتوفّر له من معرفة في ذاك الحقل.
ويضيف “المرجعية الرئيسية في الرواية هي ذاكرتي عن خيالات الطفولة، إذ كنت أسيرا كأغلب أطفال بلداننا لحكايات ما ورائية وقصص شعبية، ثقافتنا العربية لها جناح طويل في العوالم العجائبية. وقد وفّرت لي نشأتي متعددة الثقافات مادة خام كبيرة جدا، فأنا مصري ولدت وكبرت في الإمارات في حارة اسمها حارة السوريين، وفترة التكوّن تلك أمدتني بكم لا نهائي من المرجعيات الشفهية والحكايات الأسطورية متعددة الألوان. وأذكر أنني كنت أشكّل بالصلصال كائنات خرافية، كان ذلك في المرحلة الابتدائية، وكنت أرسم على مفرش مكتبي أبطالا خارقين أخصص لكل منهم بطاقة شخصية أو بروفايل.. تلك كانت الكواليس البدائية الأولى للرواية”.
تقدم “الوصفة رقم 7″ قريناً فانتازياً لعالمنا المعاصر، وهو قرين يحارب المتخيل المنطقي والعقلانيّ للعالم الذي أفسد عقولنا ووعينا، فهل يرى همام أن خراب العالم المحتم جعلنا فايروسات أو طفيليات من نوع ما، لا نجاة لنا إلا بالعنف، وهل يجعل الافتراض السابق فن الرواية محاولة نفيّ واهية لهذا الخراب، فيعقب بقوله إن العالم يتداعى، طوال الوقت، منذ يومه الأول وهو يتداعى وآيل للسقوط، كل ما هناك أن هذا التداعي يحدث في عصرنا على الهواء مباشرة وتحت أعين الكاميرات والفضائيات والأقمار الاصطناعية وصحافة المواطن وصحافة الموبايل وسطوة السوشيال ميديا، فاكتسى بمسحة درامية وصار متاحا للتعليق والمتابعة للكل، لذا يبدو الأمر جنونيا، ويضيف “أنا نقيض الرؤية الرومانسية للرواية وأثرها الواقعي، النقيض بالضبط، لا أعتقد أنه يجب أن يكون هناك دور اجتماعي للفنون عموما، فهذا ينزع عنها الكثير من الشروط والإكراهات الفنية لصالح أهداف خيرية يجب أن تتحملها جهات أخرى غير الفن والأدب. وأنا عندما أكتب لا أكون بصدد توجيه أي نصح لأحد أو تقديم حل ما، فالواحد بالكاد يستطيع إدارة حياته وتسيير شؤونه الخاصة”.
ويختم همام بقوله إنه لا يستطيع أن ينكر أن الرواية، وربما، في أحد احتمالاتها اللانهائية قد تعتبر محاولة نفي واهية للواقع، لكن ذلك لا ينتقص منها، فالذي ينتقص من أي رواية، هو أن تكون رديئة وتحمل وعيا محدودا بالأدب.
مجلة الجديد اللندنية