النظام العربي: في انتظار جراحة مؤلمة

العالم يتحول بسرعة، والمنطقة العربية تتحرك بسرعة، وربما بمعدلات أسرع، وأغلبنا منشغل بالسرعة ومقارنة سرعة التغيير في العالم بسرعة التغيير في أقاليمه أو بين الأقاليم. ننشغل بالكَمّ والشكل، ولا نسأل كيف يتحول العالم وكيف تتحرك الأقاليم وبخاصة الشرق الأوسط ونحو أي حال وأي وضع يتغيرون. منشغلون أيضا بالاستعداد لجولة جديدة في الحرب العالمية ضد الإرهاب، الحرب التي ظن الرئيس الأميركي أوباما أنها انتهت واستحقت قراراً رئاسياً بوقف التداول باسمها وتجميد موازناتها وترتيباتها وفض تحالفاتها. الانشغال هذه المرة كالانشغال في الجولة الأولى يقتصر على تشكيل حلف “الراغبين” في التصدي للإرهابيين الجدد على نمط التصدي للإرهابيين الأول، لا أكثر وربما أقل.
[[[
لم نسأل بعد السؤال الهام؟ إذا كانت أميركا قد انتصرت حقا على “القاعدة” وقضت على مواقع التنظيم، فماذا نسمي دعوة الظواهري أنصاره لنقل مسرح عملياتهم إلى شبه جزيرة الهند؟ لن أقنع أحداً بالرأي القائل إنه يحاول إثبات وجوده. وكيف نفسر ظاهرة «داعش» وغيرها من ظواهر الإسلام المتشدد؟ لن أقنع الكثيرين بالنظرية السائدة في الغرب والقائلة بأن أجهزة استخبارات عربية ابتكرتها أجنة، لإزعاج حكومة الأسد، فكبرت وتوحشت، ثم تمردت على مبتكريها. بمعنى آخر، العرب يعودون بقيادة أميركا، للمشاركة في جولة جديدة من حرب عالمية ضد ظاهرة لم نحدد بعد بالدقة اللازمة هدفها وبوسائل لا ترقى إلى مستوى يضمن القضاء على الظاهرة من جذورها نهائيا.
[[[
اجتمع مجلس الأمن الدولي في نيويورك وأصدر بيانا يطالب الدول الأعضاء في الأمم المتحدة بالتحرك لوقف الدعم اللوجيستي والعسكري والمالي لمتطرفين في العراق وسوريا، واجتمعت قمة حلف الأطلسي في كارديف بمقاطعة ويلز ببريطانيا وقررت دعم جهود التصدي للمتشددين، واجتمع وزراء خارجية الدول العربية لينظر في اتخاذ كل الإجراءات الضرورية لمواجهة تنظيم الشر والتعاون مع كل الجهود الدولية والإقليمية والمحلية لمحاربة الجماعات المتشددة. معنى هذه القرارات الدولية والإقليمية والمحلية هو أننا جميعاً سوف نؤيد الخطة التي يعكف على إعدادها وتوزيع مهامها الرئيس باراك أوباما ليعلنها، وأن كلاً منا سوف يقوم بالدور المحدد له في الخطة. نعرف جميعا أنه إذا كانت الجولة الأولى معياراً لقياس نجاح الخطة الأميركية التي طبقت في أفغانستان والعراق، فالاحتمال الغالب هو أن الجولة الجديدة التي نحن بصددها لن تكون حاسمة في القضاء على الظاهرة، ولن تكون هذه الحرب العالمية الجديدة ضد الإرهاب نهاية حروب العالم ضد الإرهاب والتشدد. نقول هذا ونحن نعلم أننا قد نكون على أبواب مرحلة رهيبة من الفزع والقتل والتشريد لم تشهد المنطقة مثلها من قبل.
[[[
نعرف هذا، ليس فقط لأن نتائج الجولة الأولى للحرب العالمية ضد الإرهاب تصرخ في وجوهنا جميعا معلنة الفشل الذريع، ولكن أيضا لأننا، أولا: ما زلنا ندور في الدائرة المفرغة لظاهرة الإرهاب وأساليب التعامل معها. ولأننا، ثانيا: لم نتطرق بعد إلى حقيقة أن أوضاعا كثيرة للغاية تغيرت على أرض الواقع في الشرق الأوسط وخارجه خلال الثلاثين عاما الماضية، وان ما جربته أميركا في أفغانستان والعراق قد لا يصلح إذا تكررت تجربته في عراق اليوم وسوريا واليمن وأفريقيا ومصر وغيرها. ولأننا، ثالثا: لم نجرؤ بعد على تحديد هوية من نجتمع ونتحالف ونستعد من أجل إنقاذه. هل نحن، وأقصد الحلفاء العرب لأميركا، نحاول إنقاذ شعب سوريا؟ وإذا كان هذا بالفعل هو هدف محاربة العناصر المتطرفة في سوريا، فأي طوائف سوريا هي التي سيسعى الحلف إلى إنقاذها قبل غيرها إن لم يكن دون غيرها؟ أم أن حكومة سوريا هي هدف الإنقاذ؟

نعم. لن تكون آخر جولة لنا مع الإرهاب للأسباب التي ذكرتها في السطور السابقة وأيضا لأننا، رابعا: لم نقرر بعد، كما يجب أن يقرر أي فريق يستعد للانضمام إلى حلف يهدد بشن حرب عالمية وإقليمية، ماذا نحن فاعلون بأنفسنا بعد أن تنتهي هذه الحرب، أي بعد القضاء على هذه التنظيمات المتعصبة والمتوحشة؟ أنعود بشعوبنا وجيوشنا فنسلمها للقوى الحاكمة نفسها التي تتحمل، في رأيي، بسياساتها وأخطائها المتكررة المسؤولية العظمى عن نشوب وتصاعد ظاهرة الإرهاب؟ نحن أيضا لم نقرر بعد إن كنا بعد هذه الحرب سنعود “دولا قومية” كتلك التي قامت وعاشت عقودا عديدة قبل أن يصبح استمرار وجودها مثار شكوك واحتمالات متباينة.
[[[
لا أحد ينكر أن الإرهاب صار طبيعة ثانية للشعوب والحكومات العربية خلال الثلاثين عاما الماضية. الغريب في الأمر أن محاولات جادة جرت في عدد من الدول العربية للانتقال إلى الديموقراطية دون أن يتطرق الانتقاليون إلى الخطوة الأهم وهي التخلص من قيود وقوانين الإرهاب المعوقة للانتقال إلى الديموقراطية. بل لعلهم لم يحاولوا إشاعة جو خال من الحالة الإرهابية. لذلك، ولأسباب أخرى معروفة، كان الفشل نصيب كل محاولات الانتقال إلى الديموقراطية في العالم العربي، على عكس الحال مثلا في أميركا اللاتينية وأوروبا الشرقية حيث كان النصيب أوفر نسبيا. سيقال، كما قيل بالفعل، ظروفنا تختلف، فالإرهاب مقيم لا يغادر أو يعتدل. وهذا صحيح. ولكنه صحيح أيضا أننا لم نحاول جدياً التخلص من “فكر وأساليب الحكم في ظل الإرهاب”. استمرت قوانين الإرهاب تلعب دور مظلة الأمان للقوى الحاكمة وفي الوقت نفسه عنصر تخريب دائماً في تجربة التحول الديموقراطي ومبرراً لتصعيد التطرف والتشدد.
[[[
كيف يمكن لقيادات سياسية حاكمة أن تكرر خططا وأساليب لمحاربة الإرهاب ومطاردة جماعات التشدد الديني؟ خطط سبق أن جربها مسؤولون قبل ثلاثين عاما أو في ظروف دولية وإقليمية مختلفة. لا أتحدث هنا عن ثلاثين عاما عادية بل عن ثلاثين عاما استثنائية حدث خلالها تغيير جذري في كل شيء تقريبا. لن أعود لأسرد بعض هذه التغييرات، ولكن يكفي في هذا الإطار أن أشير إلى أن ما يشبه “الإجماع الفكري” في عالم العلاقات الدولية يسود الآن، معتبراً أن النظام العالمي اقترب من حدود مرحلة انفراط. والدلائل عديدة، كما يشير الحوار الذي دار بين بعض كبار المتخصصين وهم توماس كاروثرز ولينا الخطيب ومروان المعشر ودوغلاس بال واندرو وايس، وكما يشير بحماسة قاطعة هنري كيسنجر في أحد فصول كتابه المقبل. معتبرا أيضا أن النظام الإقليمي العربي تجاوز الحدود بالفعل وها هو يدخل مرحلة انفراط. الدلائل ايضا عديدة، وفي صدارتها احتمالات سقوط “الدولة القومية” كأساس للنظام الإقليمي وأحد أهم عناصر استقراره لأكثر من سبعين عاما. أكرر اقتناعي بأنها ستكون مسألة عبثية لو اعتمد باراك أوباما في خطته الجديدة على حلف يضم دولاً عربية متجاهلاً أن تحولات جوهرية حدثت في المنطقة. هذه التحولات لا تتعلق فقط بالفرد العادي ورؤيته لدوره ومستقبله ولكن تتعلق أيضا بمواقع “الدولة” في ذهن هذا المواطن وفي تراتب النظام السياسي القائم في الغالبية العظمى من دول الإقليم، وتتعلق كذلك بحال المؤسسات الإقليمية وفاعليتها وشرعيتها، مثل جامعة الدول العربية ومنظمة التضامن الإسلامي، باعتبارهما من مؤسسات “العهد القديم”، أو بتعبير آخر “عهد ينصرم”.
[[[
قليلون، وربما نادرون، هؤلاء الذين يمكن أن يكونوا قد فكروا في الإجابة عن السؤال التالي: هذه الحملة العالمية الجديدة ضد الإرهاب تهدف إلى إنقاذ وحماية من؟ لم يصل بعد إلى مسامع المواطنين العرب القلقين على مستقبلهم والمشردين في الصحاري والتلال والحقول هرباً من بطش حكومات وعصابات التكفير والإجرام، ما يؤكد لهم أن هذه الحرب العالمية ضد الإرهاب سوف تنصفهم ضد قمع وفساد جماعات سلطة ونفوذ تحكمت في حياة شعوب المنطقة سنوات بل عقودا عديدة. خرجت هذه الجماعات محصنة من الجولة الأولى لحرب الإرهاب وخرجت الشعوب خاسرة ومعرضة للظلم والاستبداد. المدهش في الأمر أنه في الوقت نفسه هناك شكوك عميقة وملموسة لدى كثير من أعضاء جماعات السلطة والنفوذ في العالم العربي في أن هذه الحملة العالمية الجديدة ضد الإرهاب قد يكون أحد أهدافها “استكمال مؤامرة” تفكيك الدولة القومية العربية، أو على الأقل إضعاف هيبة الدولة. هناك أيضا شكوك أخرى أعمق وأوسع انتشارا، تتضمن الاعتقاد بأن الحرب الجديدة ضد الإرهاب قد يكون بين أهدافها إعادة “استدعاء” قوى الإسلام المعتدل، أي «الإخوان المسلمين»، لتولي مقاليد الحكم في البلاد العربية تحت مسميات متنوعة. هذا على الأقل هو ما حدث نتيجة للجولة الأولى من الحرب ضد الإرهاب. شكوك على كل المستويات، من مستوى الفرد العربي العادي، إلى مستوى القوى التي هيمنت طويلا على الحكم والسلطة في العالم العربي.
[[[
ليس هناك من عاقل في الوطن العربي ينتظر من الرئيس أوباما أن يعلن عن تفاصيل خريطة سياسية جديدة للشرق الأوسط، كنتيجة متوقعة أو مرغوبة لحرب جديدة طويلة في المنطقة. في الوقت نفسه، ليس هناك من عاقل في المنطقة مطمئن إلى أن الشرق الأوسط عموماً غير مقبل على تغييرات جوهرية. قد لا يكون في ذهن أوباما وأعوانه شكل معين أو خريطة بعينها لشرق أوسط جديد، وعلى كل حال لن يجد صعوبة في العثور عليها بين أوراقه لو شاء، وقد لا يكون في ذهن معظم الحكام العرب، أو من تبقى منهم، أن شيئا جوهريا في بلادهم والمنطقة عموما سوف يتغير. هم على كل حال، ومعهم الغالبية العظمى من المفكرين العرب والمتخصصين في العلاقات الدولية والإقليمية، لم يخصصوا بعد الوقت أو الجهد اللازمين للتفكير في شكل مستقبل بلادهم والمنطقة عموما. وفي ظني أن البدايات على كل حال غير مطمئنة. إذ إنه حين يقرر العرب مسبقا، وقبل الاطلاع على تفاصيل خطة أوباما للحرب العالمية ضد الإرهاب، دعمهم لكل ما يصدر عن مجلس الأمن وعن قمة الناتو، يصعب جدا الاطمئنان إلى أن المسؤولين العرب قد فكروا أو كلفوا من يفكر في تقديم “اقتراحات عربية” في شأن مستقبل منطقتهم ومستقبل دولهم، لتتضمنها خطة الرئيس أوباما. يسيطر على هؤلاء كما على غيرهم تجربة المرحلة الأولى من الحرب ضد الإرهاب، حين شاركوا قدر المستطاع في تحالف الراغبين دون أن يتدخلوا في وضع الأسس التي تضمن لهم استقرار حكمهم في نهاية الحرب. انتهت الحرب فإذا بأكثر أنظمة الحكم العربية في مهب ريح الربيع العربي. أغلب هؤلاء يدركون أن حالهم اليوم غير حالهم قبل عشرة أو عشرين عاما، ولكن لا أحد منهم مؤهل بالتجربة وبخبرة علاقاته بأميركا لأن “يتخيل” حاله وحال بلاده وحال المنطقة العربية والإسلامية بأسرها، في نهاية المرحلة الجديدة من الحرب العالمية ضد الإرهاب.

صحيفة الشروق المصرية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى