النفط بين النعمة والنقمة: مفارقات الثروات النفطية في الشرق الأوسط بعد انهيار الدولة العثمانية ومعاهدة سايكس-بيكو
ماهر عصام المملوك

حين انهارت الدولة العثمانية في مطلع القرن العشرين، بدا وكأن الشرق الأوسط مقبل على ولادة جديدة، تتيح لشعوبه أن تعيد بناء كيانها السياسي والثقافي المستقل بعد قرون من التبعية. غير أن هذه الولادة تعرّضت لتشويه مبكّر، خصوصًا بعد توقيع معاهدة سايكس-بيكو عام 1916، التي قسّمت المنطقة بين بريطانيا وفرنسا وفق مصالح استعمارية بحتة. وبالتزامن مع ذلك، كانت ثروات النفط تتكشّف شيئًا فشيئًا في هذه الأراضي المترامية الأطراف، لتضيف إلى المشهد تعقيدًا بالغًا: فمن جهةٍ، قدّمت هذه الثروات وعدًا بالرخاء والتحديث، ومن جهة أخرى تحوّلت إلى سبب مباشر لصراعات لا تنتهي وحروب أهلية مزمنة.
إن المفارقة الكبرى أن بعض دول المنطقة، التي لم تكن تملك عمقًا حضاريًا طويلًا أو إرثًا مؤسساتيًا راسخًا، نجحت في تسخير موارد النفط لتشييد مجتمعات متقدمة وحديثة نسبيًا، بينما دول أخرى، غارقة في إرث حضاري وثقافي عريق، انحدرت إلى مستويات غير مسبوقة من العنف والانقسام والفقر.
فقبل اكتشاف النفط، كانت معظم المجتمعات في شبه الجزيرة العربية وسوريا والعراق وفلسطين ومصر تعتمد على الزراعة والتجارة والحرف التقليدية. ولم يكن يخطر ببال أحد أن تحت رمال الصحراء ترقد احتياطيات هائلة ستغيّر مصير المنطقة وتستدعي القوى العظمى لتثبيت نفوذها بأشكال مباشرة وغير مباشرة.
ما فعلته سايكس-بيكو هو أنها رسمت حدودًا مصطنعة على خريطة المنطقة، جمعت مكونات إثنية ومذهبية متباينة في كيانات سياسية جديدة لم تعرف الانسجام من قبل. وحين تدفقت عائدات النفط على هذه الكيانات الوليدة، ظهرت الفوارق العميقة بين المجتمعات التي تمكنت من صياغة هوية وطنية ومؤسسات حاكمة مستقرة، وتلك التي ظلت عاجزة عن تجاوز الولاءات الأولية (القبيلة والطائفة والعرق)، فاستحال النفط لعنةً غذّت النزاعات بدلًا من أن توحد المجتمع.
ويمكن هنا أن نأخذ مثال بعض دول الخليج العربية التي لم تكن تاريخيًا مراكز حضارية ضخمة مقارنة بالعراق أو مصر أو سوريا. فقد أسهم اكتشاف النفط في هذه الدول بإنشاء دولة ريعية مُمركزة قادرة على احتكار العائدات وتوزيعها لشراء الولاءات الداخلية، وبناء بنية تحتية حديثة، وتمويل التعليم والخدمات والابتعاث. وعلى الرغم من التحديات المرتبطة بالنموذج الريعي، فإن هذه الدول استطاعت خلال عقود محدودة أن تتحول إلى كيانات ناجحة اقتصاديًا، تتصدر مؤشرات التنمية والرفاه في العالم العربي.
وفي المقابل، نجد أن دولًا مثل العراق وليبيا والجزائر، وهي ذات تاريخ طويل وثقل ثقافي، لم تتمكن من توظيف الثروات النفطية بنفس الكفاءة. لقد استولت عليها أنظمة ديكتاتورية جعلت من النفط وسيلة لتكريس القمع وتغذية الانقسامات العرقية والطائفية. وفي النهاية، تحولت عائدات النفط إلى لعنة؛ إذ صار الصراع على السلطة صراعًا على التحكم بثروة البلاد، وجرى توظيف الخطابات القومية والدينية لأغراض البقاء في الحكم.
من المفارقات التي لم يزل الشرق الأوسط يدفع ثمنها، أن النفط جعل المنطقة رهينة لتوازنات دولية. القوى الكبرى رأت في هذه الثروة فرصة للهيمنة والسيطرة على إمدادات الطاقة العالمية. في إيران، أدى السعي لاستعادة السيطرة على النفط إلى الانقلاب على حكومة محمد مصدق الوطنية عام 1953. وفي العراق، اجتمعت عوامل الصراع الداخلي مع التدخل الأميركي والبريطاني، لتنتج حروبًا وحصارات وتفكيكًا للمجتمع.
لقد تحولت الثروة النفطية إلى سبب جوهري لبقاء قوى خارجية حاضرة في قرارات دول المنطقة. ولم يقتصر الأمر على الاستعمار المباشر أو الوصاية، بل تواصل عبر اتفاقات أمنية وعسكرية ومبيعات سلاح ومشاريع نفوذ سياسي. في حين استفادت دول صغيرة ذات موارد محدودة من هذا الوضع عبر ضمان الحماية الأمنية التي مكّنتها من التركيز على التنمية، دفعت دول أخرى أثمانًا باهظة بسبب الانقلابات والحروب والتدخلات المستمرة.
هناك الكثير من المراقبين يستغربون كيف لدول ليس لها عمق تاريخي كبير أن تصبح نماذج ازدهار، بينما دول عريقة في حضارتها، مثل العراق وسوريا، صارت منكوبة بالفقر والاقتتال. التفسير لا يكمن فقط في وجود النفط، بل في قدرة هذه الدول الحديثة على تبني نموذج الدولة الريعية المركزية، وربط الاقتصاد بهوية وطنية جامعة نسبيًا، في مقابل دول أنهكها الانقسام الاجتماعي والاحتلال الأجنبي والصراعات العقائدية.
كذلك، ساعدت قلة عدد السكان في بعض الدول الغنية بالنفط على تحقيق معدلات رفاه عالية. بينما في دول ذات كثافة سكانية أكبر وتنوع قومي وطائفي، مثل العراق، لم تكن عائدات النفط كافية لامتصاص التوترات الاجتماعية والتاريخية، فصارت تُوظَّف أداةً للقمع والتمييز بدلًا من التنمية.
فالديكتاتوريات والأنظمة الشمولية المسبقة الصنع والمصنعة خارجيا من قبل الدول العظمى والتي لها كل المصالح في الشرق الأوسط كانت هي سبب من جعلت من النفط وقوداً للاستبداد، وحين توفرت موارد النفط لأنظمة سلطوية، صارت قادرة على تمويل أجهزة أمنية هائلة، وإدامة شبكة ولاءات لا تعتمد على الإنتاجية الاقتصادية بقدر ما تعتمد على توزيع الريع. في العراق وليبيا، مثلًا، ازدهرت منظومة الاستبداد على عوائد النفط، بما منحها قدرة على قمع أي معارضة وتمويل مغامرات عسكرية خارجية.
في المقابل، حرمت هذه الأنظمة شعوبها من المشاركة السياسية والاقتصادية الحقيقية. وحين انهارت تلك الأنظمة تحت ضغط الحروب أو الثورات، كانت المؤسسات المدنية شبه معدومة، فانهار كل شيء: الخدمات، الأمن، الاقتصاد. وهكذا تلازم النفط مع لعنة الفوضى عقب انهيار الديكتاتوريات.
الشعوب التائهة خارج الزمان
ربما كان أقسى ما حمله النفط إلى بعض شعوب الشرق الأوسط هو التعاسة والإحساس المزمن بالغُبن التاريخي، وأن ثرواتها الهائلة جعلتها تصبح بين أفقر سكان الأرض وأتعسهم. ففي العراق، عانى الناس حصارات وحروبًا، رغم أن البلاد كانت يومًا من أغنى منتجي النفط. في اليمن وليبيا وسوريا، تحولت ثروات الطاقة إلى موارد تمويل للحروب الأهلية التي مزقت المجتمعات.
تكرست في أذهان كثيرين فكرة أن النفط لا يجلب الرخاء إلا إذا رافقه عقد اجتماعي متين، ومؤسسات دولة حديثة، وهوية وطنية مشتركة. أما حين يغيب هذا كله، يصبح النفط لعنة تكرس التبعية والتهميش والانقسام.
وبعد قرن على سايكس-بيكو، لم تكف هذه الحدود المصطنعة عن إثارة النزاعات، ولم تتوقف الثروات النفطية عن تكريس التفاوت بين دول وشعوب المنطقة. ففي دول محددة، كان النفط حافزًا للتحديث وبناء هوية سياسية جديدة. وفي دول أخرى، تواطأت الثروة مع إرث من الانقسامات والحروب والديكتاتوريات، لتسلب الشعوب تاريخها وثرواتها وحقها في تقرير مصيرها.
هكذا صار النفط نعمةً على البعض، ونقمةً على آخرين، في مفارقة تعكس مدى تعقيد علاقة الشرق الأوسط بتاريخه وجغرافيته وثرواته.
فليس النفط وحده من يحدد مصير الشعوب، بل قدرتها على بناء عقد اجتماعي عادل، ومؤسسات تحمي الثروة من أن تتحول إلى وقود للانقسام والفساد. ولعل هذا الدرس هو ما ستبقى أجيال المنطقة تتعلمه، وهي تحاول الخروج من دوامة اللعنة النفطية التي بدأت منذ لحظة سقوط الدولة العثمانية.
بوابة الشرق الأوسط الجديدة