Uncategorized

النفوذ المعنوي

النفوذ المعنوي…. “الغبار يغطي الكتب…لا المعرفة” صباحاً باكراً كنت أمشي وبيدي كتاب “مروج الذهب” للمسعودي.

أقرأ في الصفحة 138، قال المسعودي: إنه لما وقف “بابك الخرمي”، وهو أحد أخطر قادة الثورة في عهد الخليفة العباسي المعتصم، حيث تمرد وقاتل جيش الخلافة عشرين عاماً…لما وقف بين يدي الخليفة قال له: أنت بابك؟ قال: نعم أنا عبدك وغلامك…قال: جرّدوه. فسلبه الخدم ما عليه من الثياب، وقطعت يمينه، وضرب بها وجهه، ثم يساره، وثلّت برجليه، وهو يتمرغ في النطع في دمه، وهويضرب وجهه بما تبقى من زنديه، وأمر المعتصم السياف أن يدخل السيف بين ضلعين من أضلاعه أسفل القلب ليكون أطول لعذابه ثم أمر بجز لسانه وصلب أطرافه مع جسده، ثم حمل الرأس إلى مدينة “السلام” ونُصب على الجسر، وحمل، بعد ذلك، إلى خراسان يطاف به كل مدينة.

في الحقيقة كنت سيء الحظ لأنني ، هذا الصباح الباكر، وقعت على هذه الصفحة عشوائياً، لأتسلى. ولكنني فوجئت بالبلادة غير المرتجفة التي انتابتني، وكان تقززي أقل من منسوب البشاعه في المشهد. وعرفت السبب…فها نحن، في سورية، ندخل العام السادس من التعود على الذبح والتقطيع،والتفظيع، والحرق، والطرق ، والتشويه… وها أنا أكمل الكتاب العشرين ـ ربما ـ من كتب التاريخ التي تروي مآثر الأجداد في التنكيل بالخصوم، سلطة ومعارضة. ثواراً وخلفاء، حكماءوحمقى… وبالطبع لم يكن هؤلاء الأجداد يتعثرون ،في حياتهم اليومية، بالدماء التي يهدرونها، فالمتوكل، وهو يقتل في النهار، كان يضاجع،في الليل، الجارية رقم 4000 والتي انتظرت دورها كل هذا العدد من السنين.

فجأة، وأنا في هذه السردية الدموية ، يستوقفني شاب، ويستأذن بالحديث، قائلاً بطريقة التبليغ السريع :

” أنا أسمي شادي . أدرس في كلية الحقوق. وقد فقدت شهيتي للدراسة في هذه الظروف، فلم أتخرج، رغم مرور السنوات، زهدا بالعلم ويأسا من المستقبل…”

توقف قليلا ثم أكمل في هدوء:

“لكنني بسببك ، بسبب منظر محترم في سنك يمشي ويقرأ باكرا صباحا…سأعود إلى الدراسة وأتخرج . شكراً لك ياعمّ . سأهديك “تخرّجي” من الكلية ، هذا وعد “.

قال ذلك واستأذن ،دون تلكؤ، بالانصراف.

أما أنا فقدأحسست بأن قامتي تطول فرحاً ، ذلك لأنني، قبل لحظات، وأنا أقرأ كيفيات الانتقام من الخصوم، كنت أفكر: ما جدوى القراءة والكتابة، والمتابعة، والأمل والانتظار؟ …إلخ هذه المنظومة من أدوات المعرفة والحب…ما دام المنتصرهو المذبحه ؟ وتذكرت ،وانا تحت وطأة الالم من رضوض الحياة في ظل الحرب…كيف وقفت أمام رفوف مكتبتي وقلت للكتب ، التي بدا لي أنها تحدق بي : “ماذا فعلت بنا أيتها المعرفة؟ ها نحن بكل ثقافتنا منحطون على نحو كافٍ ، وأميون بوثائق تخرج من كليات الحماقه.” ولكنني ، بعد أن هدأت ، كتبت هذه القطعة :

“منذ متى لم تتفقّد غبار كتبك على الرفوف؟
أهذه محاولة للنسيان؟
اليوم…
نفضت غبار كتب منسيةٍ…
فامتلأت رئتاي بالماضي الكريم…
واشتقت…إلى جهلي .”

تابعت طريقي ، بعد هذا اللقاء العابر ، كأنني ذاهب إلى كلية الحقوق لأستأنف دراستي ، أنا أيضا ، وأهدي هذا الشاب ، شهادة النفوذ المعنوي للحلم … مكررا أيقونتي :

“الحلم مهنة”

بوابة الشرق الاوسط الجديدة

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على الفيسبوك

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على التويتر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى