“النوم في حقل الكرز”: بحثاً عنْ وَطنٍ بديلٍ

 

تقول أسطورةٌ قديمةٌ إنَّ الإنسان يتحولُ بعد الموت إلى موجودٍ آخر يتلاءمُ مع ما حولهُ، فإن دُفنَ في الجبال تحوّل إلى صخرة، وإن دُفن في البحر صار سمكةً، وإن دفنَ في الصحراء غدا رملةً، لذا قررتُ أن أُدفَنَ في حقل الكرز، كي أتحوّلَ إلى شجرة كرز .. المجدُ لمن نام في حقل الكرز“.

بهذه العبارات الدارجةِ على لسانِ عجوزٍ نرويجيٍّ يجاورُ بطل رواية “النوم في حقل الكرز” الصادرة عن دار الرافدين (2019)، يختتمُ الروائيّ والقاصّ العراقيّ الساخر أزهر جرجيس ويرسم نهاية روايةٍ لوّنها بِحسّهِ الفنيّ المتهكّم وسخريته المُرّة.

يذهب “صانع الحلوى” عبر السطور ليختمَ الأحداث بفلاشاتٍ كوميديةٍ سوداوية ساخرة، يُبطّنها برعبٍ مستترٍ ذاهبٍ للكشف عن عالمٍ عدوانيّ يتربصُ ببلدهِ العراق، ويُصرّ على إذلال شعبه وتشويهِ وجوده .

تبدو أحداث الرواية مدغومةً بثيمةِ السخرية الحاضرة بقوةٍ، بأسلوبٍ سرديّ حداثي جعلها تمسّ أكثر القضايا الإنسانية جديةً، بل ويذهبُ لتحويلها لمورّداتٍ للفكاهة والتهكم المرّ، مع منحها المشروعية من خلال رغبة القارئ بالضحك والاستهزاء على حياةٍ تعيسةٍ باهتةٍ فُرضت عليهِ فرضاً.

صدفةُ البداية:

تبدأُ أحداث الرواية على إثر دعوة هيلينا يورستاد رئيسةِ تحرير صحيفة نرويجيةٍ لحفلٍ عام، تصلُ بطاقتها بالخطأ لمترجمٍ عربي من أصولٍ عراقية، فتصرّ هيلينا على مجيئهِ ولقائه، لتقع الصدفة وتُريهِ مخطوطة رواية كان قد كتبها مهاجرٌ عراقيّ كتب لصالح صحيفتها تحت اسم “سعيد ينسين” وهو بطل الرواية الذي لجأ إلى أوسلو، وراح يكتبُ ويترجمُ المواد الثقافية، إلى أن قبض الموت روحَهُ، فيبدأ المترجم بترجمتها إلى العربية بناءً على رغبة هيلينا التي تفسّر إصرارها قائلةً:

“هذه الرواية لسعيد ينسين، ينبغي أن يقرأها أبناء لغتهِ قبل غيرهم، لأنّ فيها ما فيها”.

يُقدم المترجم معلوماتٍ حول مصير الكاتب الذي لم يكن يريد من العالم سوى شاهدة قبرٍ تعترف باسمه ، ربما ليحكي للعالم مأساةً عراقيةً أليمة . كتب نصهُ بالنرويجية ليقرأهُ العالم المستكين الذي يتكئُ على بلادتهِ من دون أن يشعر بما عاناه شعب العراق من ذبحٍ وقتلٍ وحربٍ اختصرها “جرجيس” بمصطلحٍ طائفيّ أبغضه وعدّهُ المسؤول عن دماء شعبه وهو مصطلح حربٍ (علي – عمر) فوصفهَا كما لو أنها الغولُ النائم الذي أيقظهُ الغرباء وتُركَ ليفتكَ بالبلاد ويمزقَ أحشاءها ومضى بعد أن شغل الناس بالكراهية والذبح والهويات القاتلة.

يحرص سعيد ينسين في نهاية مخطوطهِ أن يقدم وصيةً لصديقته هيلينا، يأتمنها فيها أن تكتب اسمه على شاهد قبرهِ خوفاً وقهراً من احتمال تكرار مصير والدهِ المأساوي والذي اعتُقل سابقاً من قبل النظام العراقي، معللاً وصيتهُ كاتباً “لئلا يُنسى، ويُمحى ذكرهُ، فيموتَ مرتين”، لتكون هيلينا خير أمين على تنفيذ الوصية، وتذهبَ بجثمانه مع برواز صورة أبيه المشوّهة، فتدفنها في حقل الكرز وتكتب:

” هنا ينام سعيد ينسين … المجد لمن نام في حقل الكرز”.

أحداث الرواية:

سعيد ناصر مردان، أو سعيد ينسين بعد أن تغير اسمه منذ أن لجأ للنرويج، ولد كطفلٍ يتيمٍ لوالدٍ كان يعمل معلماً معارضاً لنظام الحكم في بلدهِ. يعتقلهُ الأمن من بيته بعد زواجه بثلاثة أشهر، لتتولى الأم وحدها تربية سعيد بعد غياب الأب الذي بقي مجهول المصير، ذهب ولم يعد، فتبقى الأم تروي لإبنها قصتها مع أبيه ناصر مردان وظروف اعتقالهِ، وبيعها لكلّ ما يتعلق به، كتبه، صوره، أوراقه خوفاً من أن يلقى طفلها المصير ذاته، وتشتري بثمن ذلك كله ماكينة خياطة، وتعمل عليها مدفوعةً بهلعٍ رهيبٍ لمحو أثر الأب، مسوغهُ حماية ابنها ودرأ الخطر عنه.

تبدأُ الحكاية في اللحظة التي تقعُ فيها يدُ المترجم مصادفةً على قصة سعيد الذي كبرَ مدركاً فقدانهُ والدهُ، وهي لحظةُ الحدث الأهمّ، حيث ينشأ سعيد على أملٍ تستعرُ أُوارهُ يوماً بعد آخر بهدف الحصول وَلو على صورةٍ واحدةٍ لأبيه؛ الذي يأتيه كثيراً في لحظات الشرود والنوم، بوجهٍ خفيٍّ، فاقد الملامح، يهمسُ في كل مرةٍ بيأسٍ “أين قبري..؟”.

يُلاحقُ سعيد مصير والدهِ بين ما بقي من آثار المقابر الجماعية، بعد أن أنهكتْ الحرب بلاده، وجعلتها مثلَ أرملةٍ تُعيلُ دزينةَ أيتامٍ، فينمو محباً للسخرية، راغباً بها تزجيةً للألم الذي يعتملُ جوارحهُ، ليقعَ المحظور بعد أن يُلقي أمام أحدهم نكتةً ساخرةً تطال جهاز الأمن في البلاد ويشي به سامعها، فيهرب من العراق، تاركاً أمه، ويهيم في سبيل اللجوء إلى منفاهُ في بلاد الثلج والبرد؛ النرويج.

يواصلُ شبح الأب زيارة ابنه في الغربة، في كل مرةٍ كما هو، بلا ملامح، سائلاً “أين قبري ..؟” لتطغى بعدها العتمةُ المغلفةُ بالحزن على حياة سعيد مردان، وعلى طريق ألمه المجلجل، وحتى الاستقرار في الحصول على عملٍ كساعٍ للبريد في النرويج، تصلهُ رسالةُ مستعجَلةٌ من صديقتهِ عبير، الكاتبةُ العراقية المختصة بتوثيق مصائرِ المفقودين وأحوالهم.

تصرّ عبير على عودة سعيد لاحتمالِ فرصة تمنحهُ الحصول على جثمان والده من إحدى المقابر الجماعية، فيعود على جناح اللهفة والحذر، ليجد القلق، والضوضاء، والعبوات الناسفة والموت، والخراب الذي يملأ الشوارع والصداع الذي يشلّ حركته متموسقاً مع صياح أمبيرات توليد الكهرباء التي ما عاد شعبه يعلم بحالها، يصلُ إلى منطقة الكفل حيث المقبرة. يجلس مع أهالي المفقودين بين أكوام العظام في محاولةٍ للتعرف إلى جثة أبيه، إلى أن يستبدّ اليأس به، جالساً أمام جمجمةٍ متوسطة الحجم، يعلم من عدد ثقوبها أن صاحبها دفن حياً، فيلتقط لها صورةً، يقنع نفسه بأنها لأبيه، ويضعها في كيسٍ، يحمل به العظام ويمضي هامساً لنفس: “أخيراً …. حصلتُ على أبٍ غير مكتمل النصاب”.

تتصاعدُ الأحداث بعد حصولهِ على جثة أبيه، ليصطدم سعيد بالحدث الأكثر تفاهةً بعد أن عاش ما عاشهُ في النرويج، في عالمٍ راح يخلط البكاء والضحك معاً على طريق العودة من المقبرة، المعبّدة بالميليشيات الطائفية المذهبية، الأمر الذي يضطرهُ لاستصدار هويتين مزيفتين، كل واحدةٍ  تتماشى مع أهواء إحدى الطوائف، وتضمن لحاملها المرور على الحواجز من دون قتل أو تنكيلٍ، إلا أنّ القدر يخونهُ، ويخرج سعيد الهوية الخاطئةَ، لتتكلل عودته من النرويج بالاعتقال، فيقع فريسة الضرب والتعذيب، يتهشم خلالها ما بقي من جثمان والده المفترض، إلى أن ينجو من السجن بأعجوبةٍ، فلا يبقى له أملٌ في الحياة سوى بلقاء عبير، لتسلوَ عنه مكارب الحياة وَمجونها، بحبها الذي اقتات عليه في الغربة القارسة. يصل الحدث ذروته عندما يعيش اللهفة لحظةً بلحظة للقائها، حتى تأتي أمامه في مسافة لا تقلّ عن أمتارٍ قليلة، لتمر لحظةٌ كلمح البرق، وتقع ميتةً شهيدة تفجيرٍ إرهابي جديد.

النهاية:

“أن تكون عراقياً … يعني أن يكون الحزن رفيقك الدائم”

بهذه العبارة يصف أزهر جرجيس محاولات سعيد اقتفاء آثار والدته في واحدةٍ من أكثر صور الكوميديا السوداء سخريةً ومرارةً، ويقرر أن يؤسس لوالدهِ تركةً بالسردِ والقصّ، فينتقم بالكتابة من كلّ ما أزال وجود أبيه ومحا ذكرهُ. يكتب قصتهُ باللغة النرويجية، ويضمّ لها وصيتهُ التي استقاها من جارهِ العجوز الذي يحلم بالرقود في حقلٍ مملوءٍ بأشجار الكرز.

يُعثّرُ على جثةِ سعيد ينسين في شقتهِ في النرويج، ميتاً على إثر اجتراعهِ لجرعةٍ زائدةٍ من عقار الكيتامين، لتلتقط هيلينا مخطوطة روايته ووصيتهِ، وتتعهّد بإيصالها مترجمَةً إلى أبناء شعبهِ، علّهُ من سباتهِ يستفيق!.

عن الكاتب:

أزهر جرجيس؛ كاتبٌ وقاصّ عراقيّ، يقيم في النرويج. صدر لهُ كتاب “فوق بلاد السواد” عام 2015 ، وقصص ساخرة عام2017  تحت عنوان “صانع الحلوى”. يعمل مترجماً لدى مؤسسة تيلمارك للأدب والتراث النرويجي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى