مكاشفات

النِّزاريّةُ الشِّعريّة … فلسفةُ الانتماء والنَّقدُ الـمُختلِف

د. محمد الحوراني

أنْ تتحدّثَ عن نزار قباني كظاهرة شعرية في الأدب العربيّ الـمُعاصر يعني أنْ تتحدّثَ عن نصٍّ مختلف بـمُفرداتِهِ ومدلولاتِهِ وإسقاطاتهِ التاريخيّةِ سياسيّاً واجتماعيّاً وثقافيّاً.

فالقصيدةُ عندَ نزار قبّاني ليست واحةً غنّاء من الكلمات والـجُمَلِ والألفاظ الإباحيّة كما يظنُّ بعضُهم، وإنّـمـا هي نقدٌ لاذعٌ لواقعٍ مأساويٍّ ألقى بظلالِ تَـخلُّفِهِ على أمّةٍ سُرِقَتْ خيراتُها، ونُهِبَتْ ثرواتُها بحججٍ واهيةٍ وثقافةٍ هشّةٍ تستهدفُ النَّيلَ من كرامتها وتاريخها بكُلِّ ما فيهِ مِنْ نصاعةٍ وفلسفةٍ أنارت عقول الآخرين بينما اكتوى بنارها كثيرٌ من أبنائها لجهلهم بحقيقتها وبأهميّة مافيها من عمق الفكر الذي أشرق على الغرب في لحظة فارقة ودّعت تاريخه المظلم، في حينِ أنَّ المُجتمعَ العربيَّ كان غارقاً في تَخلُّفِهِ الناتجِ مِنْ مُعاناتِهِ مِنْ مُجمَلِ ما تَعرَّضَ لهُ مِنْ وقائعَ وأحداثٍ جعلَتِ المُواطنَ العربيَّ يُصابُ بالإحباطِ والخيبة والخجل من تاريخِه.

لهذا كانَ نزار قبّاني الشاعرَ المُمْسِكَ بطَوْقِ الكرامةِ والحُرّيّةِ المنسوجِ مِنْ رِقّةِ الياسَمين، ونقاءِ بردى، وعُذوبةِ النِّيلِ، وأصالةِ الأرضِ التي خُلِقَ فيها، وانتسَبَ إليها، حتّى وإنْ ظَلَمَهُ الأهلُ والأحبابُ في لحظةِ التَّخلِّي القاسيةِ التي أرهقَتْ قلبَهُ، وأضعفَتْ رُوحَهُ القابضةَ على جمرِ الوطنِ في أصعبِ اللحظات وأقسى المواقف.

مِنْ هُنا فقد نجحَ نزار أيّما نجاح في مُلامسةِ الوجَعِ التاريخيّ الداخليّ المكبوتِ في أعماقِ الجماهير العربيّة، وهو ما أخفقَ فيهِ كثيرٌ من الشُّعراءِ السابقِينَ واللاحقِينَ والمُعاصِرينَ لنزار.

لقد أجادَ نزار عَبْرَ عشراتِ القصائدِ المَبْثُوثَةِ في دواوينِهِ في أنْ يُفجِّرَ الدُّملَ المَحْشُوَّ بالوَهَنِ الثقافيّ والوسخ الأيديولوجيّ والصمتِ المُتعفِّن، كما أنّهُ كانَ الأكثرَ براعةً بينَ مُعاصريهِ مِنَ الشُّعراءِ العرب في القَبْضِ على اللحظةِ التي تُمْسِكُ بهُمومِ الناس وشواغِلهم الضّاغطة، مِنْ أكثرِها بساطةً، ولا سيّما تلكَ المكبوتة المُهمّشَة، إلى أكثرها إيغالاً في الحُلم وفي الحقِّ بحياةٍ أجمل وأفضل، من هنا تأسّستْ نُواةُ جماهيريّته، من خلال ذلك الإعجاب التلقائيّ الحيّ الذي تُجمِعُ عليهِ الأطرافُ كُلُّها، كما تُجمِعُ تلقائيّاً على الخُبزِ والماء، وعلى الهواءِ والنُّورِ، وَفْقَ رُؤيةِ أدونيس.

نعم، لقد كانَ نزار الشاعرَ الأصدقَ والناقدَ الأكثرَ حذقاً بينَ أبناءِ جِيلِهِ مِنَ الأُدَباءِ والمُثقّفينَ والشُّعراء، لأنّهُ كانَ يُؤمِنُ إيماناً مُطلَقاً بأنَّ الكتابةَ عملٌ مِنْ أعمالِ العُنفوانِ قبلَ كُلِّ شيء، لذلكَ لا يُمكِنُ للعَبْدِ أو للجاريةِ أو للصرصور أو للخنفساء، أنْ يُفكِّرُوا، أو أنْ يكتبُوا كلاماً مُهمّاً، فالشرطُ الأولُ للكلام هو احترامُ الذات، وحينَ يسقطُ شرطُ العنفوان مِنْ أيِّ نصٍّ أدبيّ يجبُ على الكاتب ألّا يقتربَ مِنْ ورقةِ الكتابة، لأنَّ اقترابَهُ منها يُصبحُ نوعاً مِنَ الزِّنى بالكلمات، ولأنّهُ كذلكَ فقد غدا نزار ظاهرةً اجتماعيّةً وشِعريّةً ومعرفيّةً لا يزالُ كثيرٌ من النُّقّادِ والباحِثينَ عاجِزاً عن سَبْرِ أغْوارِهِ والتَّنْقيبِ في جماليّاتِ نُصُوصِهِ وعُمْقِها الإبداعيِّ والمَعْرِفيِّ والحضارِيّ.

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على الفيسبوك

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على التويتر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى