” الهبلة” على الطريقة التونسية
الحديقة العامة التي تقع بمحاذاة حينا الشعبي، بدأت تضيق بمن ” خرجوا من عقولهم”، على حد التعبير التونسي.
بين الفترة والأخرى، تنضم إلى هذه الفئة التي يخاطب أصحابها السيارات وعواميد الكهرباء والكلاب الضالة، وجوه جديدة كنت ألمحها بالأمس القريب، حليقة الذقون، نظيفة الهندام ومتزنة في المشية والابتسامة والكلام.
وتيرة الجنون أو ” الهبلة” كما يقال في تونس، تسارعت في السنوات الأخيرة.. وثمة محللون أسوياء ـ وكذلك مدعون ومتفذلكون ـ يربطون الظاهرة ب ” إفرازات ما بعد الثورة”. ويطنب هؤلاء في قراءة سلوك مجانين تونس الحديثة، ومدى اختلافهم عن أقرانهم في عهدي بورقيبة وبن علي، الذين كان يُدفع بهم مع اقتراب الموسم السياحي في حافلات النقل العام نحو المدن والبلدات الداخلية المعروفة ب” مناطق الظل”.. تماما كما كانت تفعل الطبقات الأرستقراطية حين تخفي أبناءها من ذوي الإعاقات الذهنية، في أقبية القصور، بعيدا عن ضيوفها في الحفلات المخملية.
من يدري.. قد تكون نسبة الذين يصيبهم مس فيخرجون من عقولهم، هي نفسها، منذ عهدي بورقيبة وبن علي، وحتى أيام المستعمر الفرنسي، لكن ظهورهم أصبح جليا، وعلى العلن، في ظل الديمقراطية الناشئة.
هل علينا أن نسعد لأننا تخلصنا من سياسة الزج في ” البيمارستانات” بكل من تخوّل له النفس، التفكير والتصرف عكس ما ترتضيه المجموعة.. تماما مثل السجون التي صار لا يؤمها إلا من ” انطبقت عليه وتوفرت فيه” قاعدة ” لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص قانوني” وفق النظم القضائية المتطورة.
ومهما يكن من أمر، فإن جيراني الذين يسكنون حديقة حينا، وألمحهم كل صباح، يتمططون مفترشين عشبها ويتمددون على كراسيها، هم من الرجال والنساء.. إنها المساواة التي تفتخر بها بلادنا، على كل حال.. ثم أني لاحظت بأن العبارات التي يتلفظ بها معظم عناصر هذه الفئة لم تعد سوقية وبلهاء كما كان في الماضي.. لقد تناهىت إلى سمعي، في أحيان كثيرة، جمل في غاية الأناقة والترتيب حتى في خصوماتهم.
هل أقسم أني شاهدت منهم أناسا يقرؤون كتبا وجرائد.. وكذلك، فواتير كثيرة؟ كيف نفسّر صورة عبد الحميد عمار، الذي كان يوما، قبل مرضه النفسي، فنانا تشكيليا شامخا وهو يودّع موكب الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي، بيده اليمنى ويتكئ بيده اليسرى على عصاه الرثّة، حاملا كيسا به قوارير بلاستيكية؟
وبصرف النظر عما تناقلته وسائل الاتصال بأن عبدالحميد، قدم ترشحه لانتخابات رئاسة الجمهورية، فإني على يقين بأن حديقة حينا، ما زالت تتسع حتى للذين يقدمون ” قراءاتهم السوسيولوجية والتفكيكية” لظاهرة الجنون المفاجئ في البلاد.