الهندسة الصامتة في عصر التحايل الدولي: كيف يُدار الداخل السوري بحذر لا يُعلَن؟
محمد الشماع
لا تتحرّك القوى الكبرى اليوم بدافع التحالفات القديمة أو الوعد التاريخي؛ بل تتحرك بمنطق المصالح المباشرة وبحسابات القواعد العسكرية لا المصائر البشرية. وفي هذا المشهد، تبدو سوريا الداخلية معلّقة بين قوة الخارج الذي يُهندِس الاحتمال، وواقع الداخل الذي يُدير اليوم بحكمة الصبر.
روسيا، بتمركزها العسكري، لا ترى في الدم السوري إلا محيطًا لقاعدتها في الساحل، ولا تتدخل إلا بما يضمن أمن ما بنته هناك من رموز نفوذ لا يُناقش. وكل حديث عن عودة ضباطٍ من زمن بشار إلى مشهد الجيش الحالي يبدو أقرب إلى الهندسة النفسية منه إلى الواقع العسكري. إشاعات تُضخّ في الإعلام كمن يُجسّ نبض احتمالٍ لن يأتي، وكأنها محاولة تمهيد لاستعادة مشهد قديم لن يتكرّر.
أمريكا من جهتها لا تُراهن على قلب المشهد دفعة واحدة، بل على هندسة متدرجة للشرق الأوسط الجديد، شرقٌ يُعاد تشكيله حسب ما يُناسب ميزان مصالحها، لا وفق توازنات شعوب المنطقة. الساحل السوري لم يُدرج بعد في جدول التعديلات، ليس استثناءً بل انتظارًا، لأن التحريك هناك يتطلب أدوات مختلفة عن تلك المستخدمة في الشرق والشمال. الساحل هو المرحلة التي تأتي لاحقًا، حين تُنجز هندسة ما تبقّى من المشهد ويُعاد توزيع الأدوار بما يتناسب مع خطوط النفوذ.
وسط هذا كله، يبقى الداخل السوري كمرآة هشّة تُراقب التحايل الدولي بحذر لا يُعلن، وتُدير علاقاتها مع المستقبل عبر لغة الصبر. هنا، لا تُبنى البطولات على المواجهة، بل على النجاة الرمزية. منطق المقاومة بات مختلفًا: ليست البندقية هي الرمز، بل الامتناع عنها في توقيت غير ناضج. عدم الانخراط بأي عمل مسلح مع أي جهة، ولأي سبب، لم يعد حيادًا بل شكلًا من أشكال الفطنة. الصبر هنا ليس انسحابًا، بل تموضُعٌ واعٍ في زمنٍ لم يُحدَّد بعد من هم الفاعلون الحقيقيون فيه.
منطق “الهندسة الصامتة” بات السلوك اليومي للداخل السوري. كلّ خطوة محسوبة، وكلُّ كلمة تُقال في السياق الرمزي لا التصريحي، وكلُّ موقف يُفهم من الإيحاء لا من البيان. لأنّ قول الحقيقة دون ضمانات هو أقرب إلى مجازفة قد تُستخدم ضدّ قائلها، ولأنَّ الداخل لم يعُد يملك رفاهية الغضب ولا ترف التسمية، بل يملك فقط قدرة التأويل.
الهندسة الصامتة تقوم على قاعدة واحدة: لا تُعلِن ما لم يكن قابلاً للحماية. وهي في جوهرها إدارة للفراغ دون أن يتحوّل إلى انهيار، وصياغةٌ للهوية بطريقة لا تستفز من يراقبها، لكنها تحتفظ بحقّ التعبير لمن يعيشها.
تُصبح الإشاعة نفسها جزءًا من اللعبة: ليس لأنها صادقة، بل لأنها تُمهد لتصوّرٍ يُراد ترويجه، وتُجرّب تفاعل الناس معه قبل أن يُتَّخذ قرار حقيقي. لا أحد يُعيد الضباط من باب الإصلاح، بل من باب التهيئة الرمزية لنموذجٍ قديم يُعاد تغليفه بلغةٍ جديدة دون مضمون مختلف.
وفي هذه اللحظة، كلّ بيتٍ لم يُهدم هو وثيقة نجاة. كلُّ حكايةٍ تُروى من زاوية وجدانية لا من خلال نشرة أخبار، هي فعل مقاومة رمزية تحفظ الوجود من التبخّر. كلُّ لهجة محلية تُعاد صياغتها كنصّ ثقافيّ، هي إعلان عن هوية لم تُهزم، ولو تراجعت جغرافيًّا.
الداخل السوري بات يكتب الحكاية من الهامش، لأنّ المتن تملكه الجهات الدولية. وما يُكتب في الهامش اليوم، هو أصدق من كلّ ما يُقال في صدر البيان. لأنّ سوريا، في بعدها الرمزي، لم تَغِب عن ذاتها، لكنها حوّلت لغتها إلى إشاراتٍ تحفظ المعنى دون أن تُعرض للتهشيم.
وبين التحايل الدولي الذي يعيد تشكيل الزمن لا الجغرافيا، والداخل الذي يصيغ نجاته الرمزية بهدوءٍ لا يُرى، هناك فسحةٌ لحكايةٍ تُكتب الآن بعيدًا عن الضوء، لكنها تُشكّل مستقبلًا لن يُكتب إلا بمنطق من عاش التجربة، لا من راقبها عن بعد.