مكاشفات

الهويّة بين التنوع والصراع

د. محمد الحوراني

على الرغمِ من وجودِ الاختلافِ بينَ مكوّناتِ الشعوبِ في المنطقةِ العربيّةِ، إلّا أنّ هذا الاختلافَ كانَ قادراً على خلقِ مزيدٍ منَ التنوّعِ والإبداعِ والابتكارِ، في بعضِ البلدانِ العربيّةِ، بفضلِ بيئةٍ قادرةٍ على إدارةِ الاختلافِ عبرَ أنظمةٍ وقوانينَ عادلةٍ وصارمةٍ، وفي غيابِ هذهِ القوانينِ في بلدانٍ أخرى، تحوّلَ الاختلافُ إلى صراعٍ ودمارٍ، بسببِ لجوءِ البعضِ إلى الخطابِ الطائفيِّ، المرتكزِ على انغلاقٍ فكريٍّ، وتأجيجٍ طائفيٍّ، وتجييشٍ فتنويٍّ، يمكنُ أنْ يقودَ لاحقاً إلى مستنقعٍ دمويٍّ، يصعبُ الخلاصُ منهُ قبلَ سنواتٍ منَ المعاناةِ والألمِ والتمزّقِ المجتمعيِّ، عندها تكونُ “المكارثيّةُ الدينيّةُ”، وفقَ تعبيرِ المفكّرِ “ياسين الحافظ” قد خنقتِ المجتمعَ وأصابتهُ بمقتلٍ كبيرٍ في بُناهُ وأُسُسِهِ العميقةِ، بعدَ الهزّاتِ العنيفةِ والمتكرّرةِ، الأمرُ الذي سيؤدّي إلى تفكيكِ المجتمعاتِ المعنيّةِ وتهشيمِها، بعدَ إفقادِها المرجعيّاتِ العقلانيّةَ والتوافقيّةَ، وتسيّدِ وطغيانِ الخطابِ الطائفيِّ التحريضيِّ، وهو الخطابُ القادرُ على تفكيكِ المجتمعاتِ وتدميرِها، وطغيانِ النزعاتِ العدوانيّةِ، كما حدثَ في الحربِ الأهليّةِ في لُبنانَ، والعراقِ بعدَ عامِ ألفينِ وثلاثةٍ، والعشريّةِ السوداءِ في الجزائرِ، فضلاً عنِ المجازرِ العرقيّةِ في رواندا، وكمبوديا، ويوغوسلافيا سابقاً، وما يقومُ بهِ المحتلُّ الصهيونيُّ في فلسطينَ عامّةً، وغزّةَ على وجهِ الخصوصِ.

إنّ مثلَ هذهِ الهزّاتِ العنيفةِ في المجتمعِ، تُبيدُ جذواتِ الأملِ والمحبّةِ، وتُدمّرُ العلاقاتِ الإنسانيّةَ النبيلةَ في أشكالِ التعبيرِ والتفكيرِ كلِّها، و”تضربُ التكوينَ الهُويّاتيَّ المعنيَّ بالتساؤلِ حولَ التخلّفِ التاريخيِّ”، وفقَ رؤيةِ المفكّرِ اللبنانيِّ “جورج قرم”، وهو التخلّفُ الذي ارتبطَ طويلاً ووثيقاً بمسألةِ الهُويّةِ والشعورِ بالانتماءِ الجماعيِّ، وأسهمتِ الممارساتُ الدينيّةُ الخاطئةُ والخطاباتُ العرقيّةُ والطائفيّةُ الموتورةُ في تسعيرِ نارهِ، لضربِ أُسُسِهِ وأركانِهِ، من خلالِ معاركَ وحروبٍ وجدالٍ دينيٍّ ودونيٍّ عقيمٍ، سيقودُ لاحقاً إلى تخندقٍ واحترابٍ واقتتالٍ مُدمّرٍ لجميعِ المكوّناتِ، بعدَ لعنِ التجانسِ الثقافيِّ والاجتماعيِّ والإنسانيِّ بينَ هذهِ المكوّناتِ المجتمعيّةِ، والاستهزاءِ بالتاريخِ المشتركِ في الدفاعِ عن البلادِ أمامَ الغزواتِ والحروبِ عبرَ التاريخِ، والنيلِ منَ الثقلِ الحضاريِّ والتاريخيِّ المدينيِّ، الذي كانَ مضربَ المثلِ في يومٍ منَ الأيّامِ.

إنّ محاولاتِ البعضِ تسييسَ الهويّةِ الدينيّةِ أو العرقيّةِ، وتجريمَ أفرادِها كافّةِ ، وحرمانَهم من حقوقِهم، وإلصاقَ تهمةِ الخيانةِ بهم، تقودُ إلى تعزيزِ عصبيّةٍ طائفيّةٍ وعرقيّةٍ ومناطقيّةٍ، وما يزيدُ الأمرَ سوءاً أنّنا أخفقنا حتّى الآنَ في تحقيقِ تنميةٍ اجتماعيّةٍ شاملةٍ، تعزّزُ بناءَ المواطنةِ، بحيثُ تذوبُ فيها جميعُ الهُويّاتِ الإقليميّةِ والدينيّةِ والإثنيّةِ والعشائريّةِ في هويّةٍ وطنيّةٍ جامعةٍ.

إنّ ما يعانيهِ بلدُنا اليومَ، يفرضُ علينا جميعاً أنْ نتبنّى النمطَ الأهمَّ منْ أنماطِ الوعيِ التاريخيِّ، وهو التاريخُ المُتبصِّرُ، لأنّهُ الأقدرُ على منعِنا منَ الانزلاقِ إلى المنعطفاتِ المدمّرةِ، وهذا لا يتحقّقُ إلّا بتعزيزِ الثقةِ بينَ المكوّناتِ المجتمعيّةِ، وحضورِها في مفاصلِ الدولةِ كافّةً، من خلالِ مشروعٍ سياسيٍّ حقيقيٍّ، قائمٍ على إشراكِ الجميعِ في تأسيسِ دولتِهم الوطنيّةِ الجديدةِ، ووضعِ حدٍّ للتجاوزاتِ التي تستهدفُ أيَّ مكوّنٍ مجتمعيٍّ.

ولنا في تجربةِ جنوبِ إفريقيا بعدَ نظامِ الفصلِ العنصريِّ مثالٌ حيٌّ، حيثُ تمَّ اعتمادُ لجانِ الحقيقةِ والمصالحةِ، لإعادةِ بناءِ الثقةِ بينَ المكوّناتِ المجتمعيّةِ، ومنعِ البلادِ منَ الدخولِ في دوّامةٍ انتقاميّةٍ، وبلدُنا اليومَ بأمسِّ الحاجةِ إلى خطابٍ وآليّاتٍ تحمي تعدّديّتَهُ وتنوّعَهُ الثقافيَّ، وهو خطابٌ قائمٌ على المساواةِ في الحقوقِ والواجباتِ، بما يضمنُ عدمَ شعورِ أيِّ فريقٍ أو مجموعةٍ أو طائفةٍ أو عرقٍ بالتهميشِ أو الإقصاءِ، وهذا لا يتمُّ إلّا بغرسِ ثقافةِ الوحدةِ والاحترامِ المتبادلِ، وإرساءِ الأُسُسِ لمستقبلٍ مستقرٍّ، يقومُ على جهودِ الجميعِ، وحضورِهم الفاعلِ والبنّاءِ في المجتمعِ، دونَ تمييزٍ بينَ مكوّنٍ وآخرَ، وتعزيزِ خطابٍ وطنيٍّ يركّزُ على التاريخِ المشتركِ والإنجازاتِ الجماعيّةِ، بدلاً منْ تعميقِ الهُويّاتِ الفرعيّةِ.

لقد أثبتَ التاريخُ أنّ الفكرَ والممارساتِ الإلغائيّةَ الاستئصاليّةَ، لا تنتجُ سوى مزيدٍ منَ القتلِ والدمارِ، ولم تنجحْ فئةٌ عبرَ التاريخِ في إبادةِ أخرى، سواء قَلّ عدد أفرادها أو كثر، بل إنّ هذهِ المكوّناتِ استطاعتْ بناءَ وطنٍ حقيقيٍّ، انطلاقاً منْ ثقافةِ المحبّةِ والتسامحِ والإنسانيّةِ، وهذا ما تؤكّدهُ تجاربُ الشعوبِ والمجتمعاتِ في منطقتِنا والعالمِ.

ما أحوجَنا اليومَ إلى التعلّمِ منْ دروسِ التاريخِ والاستفادةِ منها!

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

 

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على الفيسبوك

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على التويتر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى