الواقعيّة الجديدة .. بين التراجيديا والكوميديا

بدأت السينما الأميركية مُتأثرة بالسينما الألمانية/النمساوية عبر مخرجين صنعوا أمجاد بداياتها، مثل فريتز لانغ، بيلي وايلدر، وليام وايلر وسواهم، ثَمّ كبرت مع السينما الإيطالية عبر إنجازات مهاجرين قدامى أو جدداً، مثل لوشينو فيسكونتي، برناردو برتولوتشي، سيرجيو ليوني، مارتن سكورسيزي، فرانكو زيفريللي، جوليانو مونتالدو (صانع فيلم «ساكو وفانزيتي»)، غوسيبي تورانتوري (صانع فيلم «مالينا»)، أنطونيو مارغريتي (صانع أفلام رعب مثل «عندما يأتي الفجر ملطخاً بالدماء» أو «عش العنكبوت»)، وسواهم من المخرجين، خاصةً في طراز «سباغيتي وسترن» أو أفلام الكاوبوي. جدير بالذكر، أن السينما الإيطالية حازت في تاريخها 14 جائزة أوسكار من الأكاديمية الأميركية، و12 سعفة ذهبية من مهرجان «كان» الفرنسي.

بداية السينما الإيطالية قديمة العهد، تعود انطلاقتها إلى العام 1900 تحديداً، وتضمّنت إنتاجاتها المبكرة الرائدة أفلاماً ضخمة مثل «كوفاديس» (1912) و«كابيريا» (1914)، استمرّت السينما الإيطالية في النمو والتصاعد وصولاً إلى كلاسيكية فرانشيسكو روزي وتجريب بيير باولو بازوليني. كان لتأثير المسرح الإيطالي إلهام كبير عبر ريادة لويجي بيرانديللو، ثم عبر إدواردو دو فيليبو وداريو فو. كما يذكر الأدب العالمي روايات الكاتب ألبرتو مورافيا والقاص البارع إيتالو كالفينو. لكن ما نقل السينما الإيطالية من المحلية إلى العالمية كان موجة من الأفلام ظهرت في الحقبة التي تلت الحرب العالمية الثانية، أطلق عليها اسم «الواقعيّة الجديدة». أسهم في ظهور مدرسة الواقعيّة الجديدة في السينما الإيطالية عامل خارجي بحت هو تدمير أكبر استوديوهات السينما الإيطالية، وهي «استوديوهات تشينتشيتا»، في أواخر الحرب العالمية الثانية التي انتهت بهزيمة إيطاليا مع ألمانيا والإطاحة بالديكتاتور موسوليني. دفع هذا جيلاً من صانعي الأفلام الإيطاليين الموهوبين للتحرّر من إطار الاستوديوهات والخروج منها إلى أماكن التصوير الطبيعية، فضلاً عن استعانتهم بأشخاص حقيقيين ليست مهنتهم التمثيل الاحترافي. صبغ تلك الموجة من الأفلام طابع شبه تسجيلي، يقترب من الصحافة في التقاطها للساخن من القصص، ومعالجتها بصورة مقنعة تجعل جمهور المشاهدين يتوحّد مع شخصياتها ويصدق ما يجري من أحداثها. من ثَمّ، وضعت «الواقعية الجديدة» أسساً شبيهة جداً بالسينما المستقلة في الولايات المتحدة وبريطانيا فيما بعد، وإن حققت السبق والريادة، ثم أردفها خط موازٍ لتيار «الموجة الجديدة» في السينما الفرنسية. أشهر المخرجين الإيطاليين الذين أسهموا في إطلاق موجة «الواقعية الجديدة» في السينما الإيطالية هم: فيتوريو دو سيكا، لوشينو فيسكونتي، روبرتو روسيليني، لويجي زامبا، بييترو جيرمي ومايكل أنجلو أنطونيوني. تدريجياً، ورغم قِلّة ظهور النجوم في أفلام الواقعيّة الجديدة، ما لبث أن اشتهر بعض النجوم الإيطاليين، وقاموا بتحقيق شهرة مدوية عبر اختراقهم السينما الهوليوودية. كما ظهر مخرجون إيطاليون آخرون ممن أسهموا عالمياً باحتراف، نذكر منهم جيلو بونتيكوفيو مخرج فيلم «معركة الجزائر» (1966)، والأخوين باولو وفيتوريو تافياني وفيلمهما «الأب المتسلط» (1977) عن رواية كافينو ليدا، وصولاً إلى روبرتو بينيني وفيلمه «الحياة حلوة» (1997)، الذي حاز ثلاث جوائز أوسكار، إضافة لفيلمه الكوميتراجيدي عن حرب العراق «النمر والثلج» (2005). باختصار، ولدت «الواقعية الجديدة في السينما الإيطالية» من رحم الهزيمة في الحرب العالمية الثانية واندحار الديكتاتورية في إيطاليا. لذا، ليس غريباً أن تنوس السينما الإيطالية عبر حقبتين متوازيتين – ما لبثتا أن تداخلتا – بين التراجيديا والكوميديا، لأن «الواقعية الجديدة» تعلّمت مع الزمن ألّا ترسم الفروقات الحادة بينهما عقب التجارب الأولى التي كانت صارمة في التزامها بالمبكي أو بالمضحك قبل أن يكتشف بعض المبدعين قيمة «الكوميديا السوداء».

يعتبر كثيرون فيلم «سارقو الدراجات» (1948) أحد أهم الأفلام التي رسمت ملامح «الواقعية الجديدة». أخرج الفيلم فيتوريو دو سيكا، الذي اشتهر ممثلاً في السينما الإيطالية والأميركية معاً، وأنجز أفلاماً عديدة مهمة كمخرج، منها «معجزة في ميلان» (1951)، «أمبرتو دي». (1952) و«امرأتان» (1960)، والأخير من بطولة النجمة الإيطالية صوفيا لورين مع النجم الفرنسي جان بول بلموندو. يقول الناقد إدوارد موراي في كتابه «عشرة كلاسيكيات سينمائية»: «في عام 1943، حَثّ واضع نظرية الفيلم الإيطالي المؤثر الأستاذ أومبرتو باربارو على أن من واجب السينما في بلده أن تظهر المجتمع كما هو في الواقع، كما ينبغي القيام بإنتاج أعمال غنائية وكوميدية خفيفة. كانت فكرة باربارو من أساسيات الواقعيّة الجديدة، وهي الحركة الرئيسية في السينما الإيطالية، التي ازدهرت بين عامي 1944 و 1952». كتب سيناريو فيلم «سارق الدراجة» للشاشة الفضية سيزار زافاتيني، مقتبساً رواية لويجي بارتولوني. يجادل زافاتيني، الذي عمل مع دو سيكا في أفلام عديدة، أن على الفيلم أن يُقدّم الحياة كما هي، وأن يجعل المشاهد يشعر بالحاجة للعمل على إيجاد الحلول. تهتم الواقعية الجديدة بكل ما هو طبيعي في الحياة، أكثر بما هو استثنائي. إن مرتاد السينما هو البطل الحقيقي للحياة، بطل الواقع الحقيقي، وليس بعض الشخصيات الخيالية في قصص مفبركة. تحظى الواقعية الجديدة بإعجاب كل من لديه إحساس بالمسؤولية والكرامة من البشر. عندما نذهب إلى الأفلام، يجب علينا أن نتعرّف إلى أنفسنا حسبما نحن حقاً عليه، وإلّا سوف نصبح معزولين عن أنفسنا الحقيقية. على الرغم مما يحب زافاتيني قوله عن كون الكاميرا تمثل الجوع للواقع، لم يصدق دو سيكا أبداً بأن الفيلم يعادل للواقع. كان اعتقاده أن الواقعيّة الجديدة تعني الواقع المتحوّل إلى الشعر». ينتهي فيلم «سارقو الدراجات» بلقطة للذكرى لا ينساها عشاق السينما أبداً. يمشي الأب وابنه ضمن زحام المدينة. يكبح الأب بصعوبة رغبته في البكاء. تقترب يد الصبي من يد والده بمحبة ويمسك بها محدقاً فيه بإدراك وتفهم، ثم يختفيان وسط حشود الناس. لا توجد دراجة، ولا عمل.. لكن يبقى هناك حب وأمل.

يذكر التاريخ أيضاً فيلماً مفصلياً مهماً في تيار «الواقعية الجديدة» للمخرج فيدريكو فيلليني هو «الطريق» (1954) من بطولة الممثل العالمي أنطوني كوين والممثلة الإيطالية القديرة غيليتا ماسينا، قبل أن ينجز فيلليني فيلمه الآخر المهم «الدولشي فيتا» (1960) من بطولة الإيطالي مارشيللو ماستروياني والفرنسية آنوك إيميه، ليصبح فيلليني أحد أكثر المخرجين الإيطاليين شهرة عبر أفلام طليعية الطابع، مثل «8.5»، «أماكورد»، «ليالي كابيريا»، «ساتيريكون» و«مدينة النساء». يُعدّ فيلم «الطريق» نقطة علام في طريق «الواقعية الجديدة الإيطالية»، بحيث يقول الناقد إدوارد موراي عنه: «تتضمن مفاتيح ملامح أسلوب فيلليني أجواء مشابهة للسيرك، مواكب شبه دينية، طابعاً مسرحياً، عروض المسرحيات الهزلية الخفيفة، تركيبات الكوميديا الجادة، الدمج بين الأسلبة والواقعيّة، الساحات والأروقة الفارغة، الطريق والبحر كرموز طبيعية، التعاقب والتبادل للمشاهد الصاخبة والمشاهد الهادئة، المشاهد الليلية والمشاهد النهارية، ومشاهد الاعتراف، الحنين للوطن و للطفولة البريئة، النقاوة والطهارة الأخلاقية، وأخيراً القداسة. ربما كان الخلاص هو موضوع فيلليني الأعظم». ألا يذكرنا هذا على نحو أو آخر بمدرسة «البيتنكس» الأدبية التي ظهرت في الولايات المتحدة آنذاك، وروائيها الشهير جاك كيرواك؟ ألا يذكرنا الفيلم أيضاً بأفلام أميركية تحرّت التشبُّه بأسلوب الواقعيّة الإيطالية الجديدة، مثل فيلم «صلاة لأجل ملاكم من الوزن الثقيل» (1962) من إخراج رالف نيلسون وبطولة أنطوني كوين نفسه؟ في الواقع، انتظرت السينما الأميركية حتى فيلم «تجوال سهل» (1969) من إخراج دينيس هوبر وبطولته، لتساير موجة الواقعيّة الجديدة الإيطالية، مُشكِّلة منعطفاً في السينما الأميركية مهَّد لظهور عديد من الأفلام المستقلة التي يُحتَفَى بها في مهرجان «صن دانس» سنوياً.

تاريخياً، رسم ملامح «الواقعيّة الجديدة» أيضاً عدد من المخرجين اللامعين، من أبرزهم روبرتو روسيليني في أفلامه «روما مدينة مفتوحة» (1945) و«ابن بلدنا» (1946) «ألمانيا في السنة صفر» (1948). كذلك فعل لوشينو فيسكونتي في «هوس» (1943) المقتبس عن رواية جيمس كين «ساعي البريد يقرع الباب مرتين»، وفيلم «روكو وأخوته» (1960)، قبل أن يخرج من هذا الإطار، لينجز أفلاماً عالمية مثل «الفهد» (1963) من بطولة برت لانكاستر وآلان ديلون ومعهما الممثلة الإيطالية كلوديا كاردينالي، و«موت في البندقية» (1971) عن رواية توماس مان. لا بد لنا من ذكر فيلم بيير باولو بازوليني الرائد، «ماما روما» (1962)، الذي يُعدّ أكثر أفلامه انتماء إلى الواقعيّة الجديدة. نذكر أيضاً أفلام المخرج مايكل أنجلو أنطونيوني: «الصرخة» (1957)، «المغامرة» (1960)، «الليل» (1961)، ومثّلت في عديد من أفلامه النجمة مونيكا فيتي، قبل أن يتجه أنطونيوني لإخراج أفلام بريطانية وأميركية. أخيراً، لا بد أن نذكر فيلماً اشتهر لدى جيل الخمسينيات هو «الرز المر» (1949) للمخرج غوسيبي دو سانتيس، من بطولة الممثلين الإيطاليين فيتوريو كاسمان وسيلفانا مانغانو.

الملفت للنظر، أسهم مخرجو «الواقعية الجديدة في السينما الإيطالية» ككتاب سيناريو، سواء لأفلامهم أو لأفلام غيرهم من المخرجين. كانوا في ذلك أشبه بمخرجي «الموجة الجديدة» في السينما الفرنسية، مثل جان لوك غودار، كلود شابرول، فرنسوا تروفو، كلود لولوش، ألن رينيه وآنييس فاردا. في الواقع، يعزى جزء من نجاح هذين التيارين السينمائيين إلى أن المخرجين أسهموا بقسط وافر في كتابة سيناريو أفلامهم، بل كان بعضهم هم أنفسهم من الكتاب والصحافيين، أو من الممثلين. ما لبث أن انتقل عدد من المخرجين الإيطاليين البارزين ليخرج أفلاماً فرنسية وبريطانية وأميركية نالت التقدير وانتزعت الجوائز في المهرجانات. لكن الملاحظ أن «الواقعية الجديدة الإيطالية» بدأت تفقد زخمها وقوة تأثيرها مع أواخر الخمسينيات، بحيث أفسحت مجالاً أمام انبثاق ما أُطلق عليه «الواقعيّة الجديدة زهرية اللون»، وهي عبارة عن تيار سينمائي انبثق عنها وغلبت عليه الكوميديا، وإن خالطها بعض الأسى والمرارة. بالمقابل، لا بد أن نشير إلى أنه في تلك الحقبة من الزمن اشتهر عديد من النجوم الإيطاليين عالمياً، وشاركوا في بطولات أفلام أميركية وبريطانية عديدة، وفي طليعتهم صوفيا لورين، جينا لولو بريجيدا، كلوديا كاردينالي، مارشيللو ماستروياني، فيتوريو كاسمان، سلفانا مانغانو ومونيكا فيتي.

تضمّنت «الواقعيّة الجديدة الزهرية» سخرية مريرة تتهكّم على الحياة الاجتماعية، ولا توفر مؤسسات الحكومة أو الكنيسة من سهامها اللاذعة. ازدهرت تلك المدرسة المتفرّعة عن «الواقعية الجديدة» الجادة مع نهاية عقد الخمسينيات وبداية عقد الستينيات، وصولاً إلى السبعينيات. تزامن ذلك مع انضمام نجوم كبار إلى من سبق أن ذكرناهم، مثل ألبرتو سوردي، أوغو تاغنازي، نينو مانفريدي، جيان ماريا فولونتي، إنريكو ماريا ساليرنو، سالفو راندوني، ألدو فابريزي، وأخيراً وليس آخراً، توتو. يذكر جيل الستينيات باقة من الأفلام الكوميدية التي أمتعتنا وفتحت أعيننا على طراز الكوميديا السياسية الناقدة، مثل «الطلاق على الطريقة الإيطالية» (1961) للمخرج بييترو جيرمي، «صفقة كبيرة على شارع مادونا» (1958) للمخرج ماريو مونيشيللي، «عملية جيمس تونت» (1965) للمخرجين برونو غورباتشي وجيوفاني غريمالدي، (وهو الفيلم السبّاق في التهكّم على أفلام جيمس بوند)، «ميمي، العامل المطعون في شرفه» (1972) من إخراج لينا والترمولر، «لعبة سكوبوني» أو «المبتغى العلمي العظيم» (1972) و«القطة» (1977) من إخراج لويجي كومنشيني، «الوحوش» (1963) من إخراج دينو ريسي، و«السنوات المزمجرة» أو «عشرينيات القرن العشرين» (1962) من إخراج لويجي زامبا.

لا يزال تأثير تلك الموجة الجديدة من الأفلام حياً حتى الألفية الثالثة، بحيث نلمسه بين حين وآخر في السينما الأميركية والعالمية، كما في فيلم «السبيل» (2010) من إخراج إيميليو إيستيفيز وبطولة والده مارتن شين، أو في فيلم «عصور الحب» (2014)، الذي أخرجه جيوفاني فيرونيسي، وشارك في بطولته روبرت دو نيرو ومونيكا بلوشي. نذكر أيضاً ذلك التأثير في فيلم «تحت شمس توسكاني» (2003) من تأليف وإخراج أودري وِلز، وفيلم «زفافي اليوناني الكبير والسمين» (2002) للمخرج جويل زويك، وصولاً إلى فيلم «هلأ لوين» (2012) للمخرجة اللبنانية اللامعة نادين لبكي. إذن، فتحت «الواقعيّة الجديدة الإيطالية» البوابة أمام مخرجين جريئين في كل العصور والبلدان كي يقاربوا مجتمعاتهم بتصوير صادق ونقد لاذع من خلال نصوص سيناريو ذكية، دون الاعتماد بالضرورة على نجوم محترفين، بل بالسعي إلى صنع نجومٍ كثيراً ما يكونون أشخاصاً عاديين يجعلون المشاهد يتوحّد عاطفياً مع المضحك/المبكي في حياتهم. هذا هو الفضل الذي لا يُنسَى لمدرسة «الواقعيّة الجديدة الإيطالية».

مجلة الدوحة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى