الوسطية مهمة مستحيلة
شبّ حريق في منزل رجل اشتهر بالكرم، فهاتف عمّال الإطفاء في مكالمة أطنب فيها من السؤال عن أحوالهم ودراسة أطفالهم قبل إخبارهم بالحدث، وحينما حضروا، صاح في وجوههم “اتركوا خراطيمكم جانبا، فو الله لا تمدنّ أياديكم لإخماد هذا الحريق التافه، إلاّ بعد تناول الغداء وشرب الشاي“.
قيل إنّ الحريق نفسه قد امتدّ إلى منزل جاره البخيل، والذي اكتفى برنّة واحدة من هاتفه المحمول إلى رجال الإطفاء، لعلّهم يتّصلون، ولكن، لا حياة لمن يشرب الشاي وسط ألسنة النيران.
التهمت النار بيت الكريم لثرثرته، وبيت البخيل لاختصاراته.. وكذلك التهمت خراطيم الإطفائيين وبدلاتهم، لإسرافهم في شرب الشاي، وربما لإهمال دراسة أطفالهم، أمّا من يبحث عن استخلاص العبرة في هذه الحادثة عن جدوى الوسطيّة مثلا، فسأروي له هذه القصّة:
اقتيد أحد العمّال الروس في الفترة الستالينيّة إلى السجن بتهمة التقصير، حين جاء إلى المصنع متأخّرا بخمس دقائق، شفع له عن خطيئته بأعجوبة، وما إن عاد لمزاولة عمله، حتى اعتقلوه ثانية بتهمة الحضور إلى المصنع قبل موعد العمل بخمس دقائق، وهو الأمر الذي يثير الشكوك حول التجسّس على أسرار المصنع، أفرج عنه حين لم تثبت عليه التهمة.
وجاء اليوم الذي حضر فيه إلى المصنع في الموعد بالدقيقة والثانية.. عندها اقتادوه إلى معتقلات سيبيريا، وللأبد، وذلك بتهمة اقتناء ساعة سويسرية مشبوهة.
الوسطيّة مهمّة صعبة، وتكاد تكون مستحيلة، بمقاييس الفيزياء والمنطق والأخلاق، ثمّ إنها ليست دائما خير الأمور، بدليل أنّ من يقف على تخوم الأشياء، يراها بعين أكثر دقّة ومحافظة على مساحة الأمان.
إنها تشبه طريقة إخماد الحريق، كما أخبرني صديقي الإطفائي الذي كان يشرب الشاي في منزل الرجل الكريم، ثمّ إنّ الوسطيّة هي النقطة الأعلى في الأقواس والدوائر لدى المعماريين، والأكثر نبذا في الفن والإبداع، وحتى العلاقات الإنسانية التي ترحّب بالساخن أو البارد، لكنّها ترفض الفاتر، بل وتتقيّؤه غالبا.
العرب قوم بارعون في تطويع اللغة لأجل مآربهم، فالبخيل الطمّاع الذي احترق بيته يصبح حريصا، والإطفائي الذي لم يستجب لنداء “المسج كول” مهنيّا، والأحمق الاستعراضي حاتميّ الكرم -وبالمناسبة، قيل إنّ حاتم الطائي قد تحوّل في آخر عمره إلى قاطع طريق كي يستمرّ في تلبية قيمة الكرم التي سجنه فيها الآكلون على مائدته – وهكذا نمضي لاجئين تحت خيمة اللغة فنبرع في تلطيف العبارات لتصبح الهزيمة نكبة، والنكبة نكسة، والنكسة هفوة.. والصراع الطبقي عتابا طبقيّا.
الناس ماكرون في السخرية ممّن يناقض طباعهم، فأنا على يقين بأنّ حادثة “بخيل الرنّة الواحدة” قد ابتدعها واحد أراد أن ينبّه جلساءه لكرمه، كما أنّ طرفة “الكريم بين النيران” قد لفّقها أحد البخلاء الذين يشتهرون عادة بحسّ الدعابة كأسلوب تطفّلي.. ولكن، من الراوي وسط ألسنة اللهب؟.