الوقائع الغريبة في اختفاء إدوارد سعيد [1]…في «مذكرات يهودي غاضب»، يقول شلومو رايخ: «يحق للفلسطينيين، الآن، أن يصوتوا في الأردن، وأن يسكنوا في «إسرائيل»، وهم بين السماء والأرض. بقيت مشكلة صغيرة: أين سيُدفَنون؟». لم يكن رايخ متخصصاً في سياسات الحياة والموت، لكنه كان يتندَّر على عبثية الحلول السياسية غير المستندة إلى الحقوق السياسية للشعب الفلسطيني. ولعل في انتباهته إلى «مشكلة الدفن» ما يغري بقراءة مصير النقد السياسي الذي مارسه إدوارد سعيد، الذي عاش ومات ودُفن «خارج المكان»… النقد الذي مارسه عشر سنوات، على الأقل، منذ إعلان موت المشروع الوطني الفلسطيني في أوسلو في 13 أيلول 1993 وحتى إعلان موته هو في نيويورك في 25 أيلول 2003. سيختفي هذا النقد في حفلة التذكُّر التنكُّرية التي سيدعو كثير من الفلسطينيين في أيلول أنفسهم إليها، لمواصلة دفن إدوارد سعيد وهم يقولون: «لا تبعد».
فالموت، على ما يبدو وعلى الرغم من سوء توقيته، هو الشخصية المعنوية الوحيدة التي تصدق وعدها للفلسطيني. وباستثناء الشهداء المحتجزة جثامينهم في ثلاجات العدو ومقابر الأرقام والمقابر التي برسم الهدم أو القصف، لأنها تقع ضمن «بنك الأهداف» في حروب إسبارطة الجديدة علينا… يتأهل الفلسطيني لدخول جغرافيا الموت ولديه وعد مضمر ألا يطرده أحد منها، وألا يفقد منزله الضيق فيها، وألا تتغير صفته القانونية على أرضها. وإن حظي بقبر وشاهدة، خرج من حيّز الوجود بالقوة في الحياة المضنية، إلى حيِّز الوجود بالفعل في الموت المريح.
وبهذا المعنى، كان إدوارد سعيد أكثر حظاً من رفيقيه محمود درويش وإبراهيم أبو لغد، وأقل حظوة لدى «القائد العام» للثورة، ولربما الأصح أنّ «القائد العام» كان أقل حظوة لديه. «اختار» إدوارد سعيد لبنان مكاناً لرقاده الأخير. كان أكثر جذرية من محمود درويش وأقل برغماتية من إبراهيم أبو لغد ليعزِّي نفسه بالقول: «جئت ولم أصل، ورجعت ولم أعد». قبل رحيله بقليل، وقف في القدس على مقربة من مسقط رأسه في الطالبية ولم يشأ «أن يواجه الخسارة وجهاً لوجه»، فقفل راجعاً. لم يقتنع بتحقيق العودة بالموت إلى طالبية القدس ليدفن في «مقبرة صهيون»، كما فعل صديقه إبراهيم أبو لغد حين عاد بالموت إلى عجمي يافا ونال قبراً في «الكازخانة» يطل على «بيت بيرس للسلام» والبحر. ولم يقتنع كما فعل صديقه محمود درويش حين رجع إلى رام الله ولم يعد إلى بروة عكا، ونال قبراً في «حديقة البروة» في رام الله التي لا بحر فيها إلا الوهم، يطل على «قصر الثقافة» و«جريدة الأيام» و«وزارة الخارجية والمغتربين» و«الأمن الوطني» و«مركز الإحصاء» و«الاستخبارات» و«المخابرات»… فيما تقطع وحوش الإسمنت يوماً بعد آخر الطريق على مرمى نظره إلى مكتبه الذي في «مركز خليل السكاكيني».
كان «خيار» إدوارد سعيد، ولربما قراره، أن يكون مثواه في لبنان ـــ لئلَّا يزعج رقادَه لو دُفن في القدس «يهودي غاضب» ــ من نوع آخر: يحسن قتل الشواهد بعد أن فرغ من قتل الشهود، ولئلا يسلّع قبره لو دفن في رام الله «فلسطيني» آخر: يحسن الرثاء ويلعن المَرثيَّ لأنه يذكِّره بمالك بن الريب. طلب إدوارد سعيد أن يدفن في أرض عربية، وأي أرض أقرب من لبنان إلى «جبال الجليل»؟ وعلى الرغم مما في لبنان، «الذي لم نفهمه، ولن نفهمه» كما كتب محمود درويش مرةً بيقين مريب، من صراع على الحياة والموت، حظي سعيد بقبر أنيق، يصلح مثالاً شارحاً لمقولة رفيقه الأوروبي عن «تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة». قبره يشبه قبر طفل تُداني مساحة ذهابه إلى عالم الموت مسافة إيابه من عالم الحياة، ضمَّ ما تبقى من رماد رفاته وقد طار من حافة النهر الذي في مانهاتن نيويورك إلى حافة الجبل الذي في برمَّانا المتن.
في ربيع 2016، وفي بيته الذي على حافة النهر، كانت «سدوم الجديدة» على حالها، لكنه لم يكن هناك. كانت حروبه ضد سدوم والسرطان في آن معاً قد أودت بـ«البطل الملحمي الأخير الذي يدافع عن حق طروادة في اقتسام الرواية». هناك، علمت من زوجته مريم سعيد بعض تفاصيل رحيله، ونقل رماد رفاته إلى مدفن عائلتها في لبنان. لم أسجل أياً منها رغم يقيني بأنني سأحتاجها لاحقاً، فالاشتغال بالموت قد لا يميت في الأكاديمي رغبة الاحتماء بمجاز الشاعر. وفي صيف 2018، وإثر إكمال جولة تصوير وبحث ميدانية في مقابر المخيمات والتجمعات الفلسطينية في لبنان، سألت أحد من رافقوني إلى مدافن الفلسطينيين، وبخاصة في مناطق الجنوب وبيروت، عن قبر إدوارد سعيد. فرد بسؤال استنكاري: «هذا الشاعر؟ ما بعرف إنه مدفون هون!». ذكَّرني بأحد سدنة المقابر في حيفا، قبل ثلاث سنوات، حين سألته عن قبر إميل حبيبي، وكنت وإياه على بعد خطوات قليلة من الشاهدة الشهيرة «باقٍ في حيفا»، فرد أيضاً بسؤال استنكاري: «هذا عضو «الكنيست» اللي عملت له البلدية «كيكار» [ميدان]؟ ما بعرف إنه مدفون هون!» كنت أعرف أين يقع قبر إدوارد سعيد، لكنني أردت معرفة مزيد من التفاصيل من دليلي «الرسمي» الذي لم يكن يعرف أنه كان عضواً في المجلس الوطني الفلسطيني، شأنه في ذلك شأن كثيرين هنا ممن لا يعرفون، حيث لم تعمل البلدية «كيكار» لسعيد في رام الله السعيدة، بل أطلقت اسمه على شارع، باتجاه واحد، ثم غيَّرته!
في حينه، أخبرني الروائي إلياس خوري، أن قبر إدوارد سعيد موجود في «مدافن جمعية الأصحاب-كويكرز» في برمَّانا، المتن. ذهبت إليه منفرداً، بلا دليل. كان ذلك في 20 حزيران 2018، وكان آخر يوم في الزيارة، وبقدر ما كانت مشهدية الصعود إلى مرقد إدوارد سعيد في برمَّانا تملأ رئتيك بالحياة، بقدر ما كان قلبك مقبوضاً على أخبار قمع المسيرة الاحتجاجية التي خرجت للمطالبة برفع العقوبات عن غزة، والطواقم الصحافية التي ذهبت لتغطيتها، أمام سفارة فلسطين في بيروت. كان من سوء الحظ أن يحتل هذا المشهد مخيلتك وأنت ذاهب لزيارة إدوارد سعيد، وكان من حسن الحظ أن لديك ما «تبشره» به عن صدق نبوءاته إن سألك عن الوضع، وإن عضَّك ضميرك على نقل أخبار الشؤم. كانت المقبرة التي على يمين الشارع مغلقة، والكنيسة مغلقة، وكان الحل الوحيد هو الذهاب إلى مخفر الشرطة لطلب النجدة! لكن ذلك كان وصفة سحرية للعودة بخفَّي حنين. وفي هكذا حالة، تسعفك خبرتك، التي تكتنفها المغامرة والمخاطرة، في التسلل إلى من تحب في عوالم الموت. وعلى الرغم من انخفاض أرضية المقبرة عن الشارع قرابة ستة أمتار، إلا أن السياج على الجهة الشمالية-الشرقية للمقبرة كان أفضل نقطة للعبور.
كانت المقبرة رقعة صغيرة تخفيها أو تكاد أشجار السرو التي قدَّمت درساً في التسامح مع وجود بعض أشجار الزيتون في ظلها. صغيرة المقبرة بأضرحتها الرخامية البيضاء المستوية، وقبر إدوارد سعيد المتفرِّد بشاهدته السوداء وقاعدته الرمادية، أو التي صارت كذلك. قاعدة رمادية تحمل عبء الاسم المشرقي بخط الثلث: «إدوارد وديع سعيد»، وتاريخ ولادته وموته بخط الرقعة والأرقام المشرقية «1 تشرين الثاني 1935- 25 أيلول 2003». وأما الشاهدة السوداء، فتحمل عبء الاسم «الغربي» بالإنكليزية: Edward W. Said، وتاريخ ولادته وموته كذلك «Nov 1, 1935-Sept 25, 2003». ماذا يمكن أن يمر في ذهن زائر، متسلل و«على قلق»، حين يقف أمام إدوارد سعيد في رقاده الأخير؟ عبء الشاهدة على القاعدة، أم ثبات القاعدة في خدمة الشاهدة؟ أم عناق القاعدة والشاهدة كنص أخير في مديح المنفى؟ وما قيمة السيميائيات كلها ما دامت الشاهدة والقاعدة لا تحملان إلا اسمه وتاريخ ولادته وموته، وشَرطةً بينهما تختزل حياة فلسطيني شهدت صرخة ميلاده قابلة يهودية، ولم يشهد صمت رقاده إلا «المثقف اليهودي الأخير» الذي كانه؟ شَرطةً تشبه الواو بين «هنا» و«هناك» والتي كادت تحسم جدلاً صاخباً عن العودة بين ديكين كبيرين، أحدهما محمود درويش والآخر إميل حبيبي، فيما لم يكن لها أي داعٍ مع إبراهيم أبو لغد الذي كانت عنده «طريق العودة هي طريق المعرفة»، بلا واو ولا شَرطة.
حاول إدوارد سعيد الشعر وحاوره، ولم «يرمه في سلَّة المهملات» مثلما فعل بالرواية. ولكن شاهدته كانت وفيَّة لطباق مكتمل الملامح بين الشاعر والمفكر والروائي. فالشاهدة والقاعدة تقولان الكثير، وترددان مرثية محمود درويش لمفكر كبير «لن تنجب فلسطين مثله حتى إشعار آخر»: «أنا من هناك. أنا من هنا. ولستُ هناك، ولستُ هنا. لي اسمان يلتقيان ويفترقان. ولي لغتان، نسيت بأيِّهما كنتُ أحلم. لي لغة إنكليزية للكتابة، طيِّعةُ المفردات. ولي لغة من حوار السماء مع القدس، فضيَّةُ النَّبْر، لكنها لا تُطيعُ مخيِّلتي!».
… لم يكن دليل المقابر مخطئاً حين وصف إدوارد سعيد بـ«الشاعر»! ولكنه كان الشاعر الذي لم يُمِتْ اشتغاله بالحياة رغبته في الاحتماء بمجاز المفكر. كان شاعراً كبيراً في إهاب مفكر كبير شغله راهن الفكر عن قادم الشعر لأنه يتحدث عن الحنين بيقين فرضيَّة المفكر: «حنيني صراعٌ على حاضرٍ يمسك الغد من خصيتيه!». ويبشِّر «بالمستحيل» الذي «على بُعد جيل». وعلى الرغم من ابتذال صفة «الكبير» في مواسم النعي والعزاء في فلسطين الجديدة، إلا أن إدوارد سعيد كان كبيراً بمنطق رفيقه محمود درويش، إذ «… الكبير من يجعلني صغيراً حين أكتب، وكبيراً حين أقرأ»، أو هكذا قال.