الى بيت من البيوت…
في يوم مطر الصواريخ على دمشق
ولقد مررت على ديارهم وطلولها بيد البلى نهبُ
وتلفتت عيني فمذ خفيـــــــت عني الطلولُ تلفت القلبُ
__________________________________
قال الصديق المغربي لصديقه المشرقي:
أخيراً…هذه دمشق التي صورتها لي “غرناطة المشرق “، في ذاكرة أندلسية. قلت لي، ونحن في المغرب الأقصى قرب نقطة عبور طارق بن زياد إلى اسبانيا: “سترى معي، ذات يوم …غرناطتنا “.
أخذتهما، الآن، ضجة الشارع، ازدحام المارة، الواجهات والأسواق. وبدأ المشرقي يفكر بكل الأماكن التي سجلها التاريخ في دفتر دمشق. فكّر بالجامع الأموي، والتكية السليمانية، قصر العظم، المتحف الوطني والحربي، المكتبة الظاهريه، قبر صلاح الدين الأيوبي، قبر معاوية، ضريح محي الدين بن عربي، الأبواب المتبقية، باب شرقي، باب توما.فكّر بالطبيعة: الغوطة، وادي بردى، نبع الفيحة، بالمصايف، بقاسيون….
وهما يمشيان إلى سوق الحميدية، كان المشرقي، بعد غياب طويل عن هذه المدينة، يعود أربعين عاماً إلى الوراء، إلى المقاعد الدراسية، إلى الأصدقاء القدامى، إلى كل ذاكرة بدأت الآن تنفض عن نفسها غبارها.
عند الظهيرة…وقد أعياهما التجوال. قال المشرقي سأريك مكاناً غير مسجل في سجلات اليونسكو المسؤولة عن آثار العالم . وعندما دخلا إلى عمق المدينة الأقدم… كانت أصداء حوافر الخيل ترن في رطوبة الأزقة: الأمويون، السلاجقة، الأتراك، التتار، الصليبيون.
وعند اختفاء صوت الجيوش كانت قلعة دمشق تبتسم.
كان المغربي مستغرقاً في دهشته ، مستجمعاً قواه لكي ليتذكر معلوماته المدرسية ، فيطابقها على ضريح، ويوازيها بسوق. ويؤكدها في قصور وقلاع وتكايا. بينماكان المشرقي مستغرقاً في سيرة هذه الأزقة، وقصص الناس، وذكريات المدرسة والجامعة.
قال المشرقي لصديقه: سأريك كنز الآثار في هذا الحي.
بعد خطوات متعثرة من تناثر بقايا بيوت متهدمة من فرط القدم. وصلا إلى بيت تدلت أخشابه، تهدلت نوافذه، وانتفخت من التصدع حيطانه. في فجوات الخراب ظهرت جدران، بقايا جدران من الداخل. خضراء وحمراء، وبدت، في زاوية ما، أضلاع مكتبة في جدار واضح، ومن بعيد قليلاً، وعلى خشب، ظهرت مطرقة الباب. مطرقة على شكل يد تقبض على كرة صغيره
في محاولة العثور على أي شيء منسي في هذا الحطام ، الآخذ أشكالاً للوحات ممزقة الألوان ، كان هناك فراغ ، بمقدار كمية الأشياء المتناثرة. وكان صمت . لا بد أن الصمت من الصفات المعندة للأطلال.
كان كل شيء متحولاً إلى ذاكرة، يؤرخ ، في لحظات ،أزمنة مضت، ويعيد صياغة الجمل اللغوية في رثاء أو حنين.
كان البيت ، في أوج تناثره ، مائلاً مستنداً إلى بيت مجاور لم يزل قيد الهزيمة.
أطال الصمت وقوفه الصريح على الأطلال.
فهم المغربي ما يدور في زمنين. فلاذ بالصمت، وبالفضول النبيل. احترم المعنى، وأدرك أن في نهاية التخوم الحزينة لهذا المكان … ثمة الجملة الخبرية الأخيرة. لكن المشرقي مد يده إلى مطرقة الباب…دقة. دقتان. ثلاث، رنت كلها في خواء الصلصال المتهتك الأغبر. تزايدت رائحة البلى والصمت الاعزل . انتزع مسماراً صدئاً وخط حافراً على الباب :
“أعرف أن لا أحد هنا
ولن يكون…
ولكنني واثق من جدوى الطرق على هذا الباب.
ثمة روح في مكان ما …
ستفتح لي لنحتسي معاً قليلاً من …الزمن.
قرأ المغربي الأسطر. نظر في عيني صاحبه ، ثم، في بطء خاشع ، رفع يديه وقرأ الفاتحة. ثم مد يده اليمنى، مصافحا صديقه ، وبها أودع الحرارة الممكنة لتعازٍ مرتجلة، أمام ضريح جليل.
……………….
كان بيت أول فتاة أحببتها !