اليمن مرآة صراعات القوى الإقليمية
كان اليمن في فترة 525-570 ميلادية بؤرة مجهرية للصراع الفارسي- البيزنطي عبر وكلاء الأخيرين الأحباش. كان انسداد الطرق البحرية بسبب ذلك الصراع عاملاً أساسياً في بروز مكة وسيطاً تجارياً. ولد محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب عام 570 الذي هزم فيه الأحباش على أبواب مكة ومن ثم اليمن. لا يمكن تفسير هزيمة البيزنطيين والفرس أمام المسلمين في زمن خلافة عمر بن الخطاب (634-644 ميلادية) من دون الإنهاك الذي أصابهما في الحرب المباشرة التي نشبت بينهما على أرض الشام ومصر بين عامي 602 و627 بعد أن كان اليمن أرضاً لصراع بالوكالة الحبشية عن بيزنطة ضد الفرس.
سقطت اليمن من أيدي الفرس بعد هزيمتهم أمام البيزنطيين ولكن بيد المسلمين سلماً عام 630 أي قبل وفاة النبي محمد بسنتين. بين عامي 1962و1970 كانت الساحة اليمنية مرآة للمنطقة وللعالم من خلال عكس الحرب الأهلية اليمنية لـ «حرب باردة عربية» بين الرياض والقاهرة كانت انعكاساً للحرب الباردة العالمية بين واشنطن وموسكو. منذ سقوط صنعاء بيد الحوثيين في يوم21 أيلول (سبتمبر) 2014 أصبحت اليمن مرآة لمجمل صراعات المنطقة وقد بان هذا بوضوح منذ فجر الخميس 26 آذار (مارس)2015.
في زمن الحرب العراقية- الإيرانية 1980-1988 كان صدام حسين يقول عن العراق أنه «البوابة الشرقية للوطن العربي». لم تستطع طهران اكتساب القدرة على التمدد الإقليمي إلا بعد سقوط بغداد بيد المحتل الأميركي، المتحالف مع إيران، يوم9 نيسان (إبريل) 2003. كان انهيار التحالف الأميركي- الإيراني في العراق المغزو والمحتل، مع بدء طهران استئناف برنامج تخصيب اليورانيوم يوم 8 آب (أغسطس) 2005، مفصلياً في تحديد التطورات اللاحقة للمنطقة ومحدداً رئيسياً لمسارها: من دون هذا لا يمكن تفسير حرب صيف 2006 التي كانت بالوكالة عن واشنطن وطهران. مع ابتعاد طهران عن واشنطن لم تعد دمشق معزولة أمام واشنطن في لبنان كما بانت في ربيع 2005. منذ نهاية حرب 2006 بدأ المد الأميركي بالانحسار، بعد أن وصل للذروة إقليمياً مع احتلال العراق، وقد ظهر المد الإيراني مكانه في عموم المنطقة من خلال محطة انقلاب حماس على فتح بغزة 14 حزيران (يونيو)2007 ومحطة 7أيار (مايو) 2008 ببيروت ثم تتوج هذا إيرانياً في بغداد يوم 25 تشرين ثاني (نوفمبر) 2010 بتشكيل حكومة نوري المالكي وهو الذي وضع بيضه كله في السلة الإيرانية بعد أن كان هناك توازن أميركي- إيراني في مرحلة ما بعد صدام حسين. لم يكن ممكناً إسقاط حكومة الرئيس سعد الحريري ببيروت، وهو في لحظة الاجتماع مع الرئيس الأميركي بالبيت الأبيض، يوم 12 كانون ثاني (يناير) 2011، لولا قبض طهران على مقاليد الأمور في عاصمة بلاد الرافدين قبل شهرين. بعد يومين من الحدث البيروتي سقط الرئيس التونسي في أول تداعيات «الربيع العربي»، وبعده بأحد عشر يوماً بدأ الفصل الثاني في القاهرة ثم اليمن وليبيا وسورية، حيث استطاعت طهران أن تخرج أقوى أمام عاصفة «الربيع العربي» بفضل رصيدها العراقي.
منذ خريف 2006 وأثناء زيارة مستشارة الأمن القومي الأميركية كوندوليزا رايس للمنطقة، بعد قليل من انتهاء حرب لبنان، بدأ طرح (معتدلون ضد متطرفين) بالتداول أميركياً. تم تعويم الدور التركي من قبل واشنطن بموازاة المد الإيراني فيما كانت أنقرة ضد غزو العراق، ورفض البرلمان التركي فتح الجبهة الشمالية بينما كانت طهران حليفة وشريكة لواشنطن. أصبحت القاهرة ودول مجلس التعاون الخليجي (ما عدا الدوحة ومسقط) في (معسكر الاعتدال ) ضد معسكر (طهران- دمشق- حزب الله- حركة حماس)، وانضاف له الرئيس محمود عباس في رام الله والرئيس اليمني علي عبدالله صالح المتحارب مع الحوثيين أتباع إيران منذ عام 2004 و (جبهة 14 آذار) في بيروت. في أثناء «الربيع العربي» اختلطت الأمور: ابتعدت الرياض عن أنقرة، وتلاقى الأميركيون والأتراك والإيرانيون في دعم الرئيس محمد مرسي بالقاهرة، وتلاقت طهران وأنقرة مع الحوثيين والتجمع اليمني للإصلاح، وهو التنظيم الإخواني المحلي، في دعم الثورة اليمنية ضد الرئيس عبدالله صالح. كانت الرياض متوجسة من جماعة الإخوان المسلمين في عموم المنطقة وتفارقت في هذا مع أميركا والأتراك. في (المجلس الوطني السوري) عام2011 كان واضحاً النفوذ التركي في الجسم المعارض السوري الذي تصدره الإخوان المسلمون وكان الحذر السعودي واضحاً أيضاً منه، وعندما تشكل (الائتلاف) بديلاً له كان موضع نزاع . اتضح التفارق الأميركي- السعودي، يوم 3 تموز (يوليو) 2013 لمّا أزيح الرئيس المصري مرسي وسقط حكم «الإخوان».
صنعاء هي التي أعادت تجميع الأوراق التي شتتها «الربيع العربي» في داخل معسكر الاعتدال. في صنعاء، تكثفت المنطقة بصراعاتها واصطفافاتها من خلال المرآة اليمنية: من خلال حدث الكويت 1990 انخلقت اصطفافات وتحالفات جديدة، تقارب متباعدون مثل واشنطن ودمشق. الحدث اليمني اليوم يعكس اصطفافات تشكلت قبله. في لوزان 2 نيسان2015 كان الاتفاق مع طهران ليس لمصلحة الإيرانيين وكما وصفه حسين شريعتمداري، مدير صحيفة «كيهان» الإيرانية الذي يعين مباشرة من المرشد الإيراني السيد علي الخامنئي، بأن «إيران قايضت حصانها المسرج بآخر مكسور اللجام». في لوزان تمت مقايضة (النووي) بـ (الاقتصاد). تدل (اليمن) على أن (الإقليمي) هو خارج لوزان ولو كان ثالث المعادلة لكانت الحصيلة الإيرانية في سويسرا مغايرة، كما تدل (لوزان) و (اليمن) على أن إقليم الشرق الأوسط برمته هو ميدان لمجابهة ستتحدد فيها التوازنات من خلال الوقائع القادمة التي ستكون طريقاً إلى تشكيل حقائق سياسية جديدة في المنطقة.
صحيفة الحياة اللندنية