اليوم السادس والتابلوه الناقص
حين نتوقف لبرهة عند شريط يوسف شاهين السينمائي «اليوم السادس»، بعد مرور عقود على إنتاجه، سنكتشف كم هي متشابهة مصائر صانعيه وعلاقاتهم مع ما يجري اليوم، وكأنها تحكي فصلاً مهدوماً من تاريخ هذا البلد. تشعر وكأنك تقف على أطلال عصر قد طويت صفحته و»لحظة معلقة بين المكان والزمان دون سلم»، كما قالت أندريه شديد ـ كاتبة القصة ـ وهي تصف نفسها في إحدى قصائدها…
أربع مصائر تقاطعت وتشابكت… ثم تفرقت. مصائر شخوص صنعوا هذه اللحظة قبل عقود، تلقي ضوءاً على ثقافة كانت تميز مصر في الحقبة الماضية، وما عاد لها وجود. أربع مصائر روت مشهداً بديعاً في مصر الحديثة، ولا يبدو أنه سيتكرر في عصر ينادي فيه فنان بضرورة كبح جماح الديمقراطية وتقييد الحريات. لكن السؤال يبقى: هل ستكون مصر قادرة في هذه الأيام القلقة على إعادة مثل هذه التركيبة مرة أخرى؟
أندريه صعب المعروفة بأندريه شديد، ولدت في القاهرة لأب سوري وأم لبنانية. هي صاحبة القصيدة الشهيرة التي بدأتها بجملة أرتور رامبو «أنا هو الآخر»، والتي تتحدث فيها عن هويتها المزدوجة وقرينها الذي تبحث عنه في أعماقها وتجده في حنينها للقاهرة القديمة التي شهدت مولدها ونشأتها في العشرينيات من القرن الماضي.
هذا القرين الذي نعود ونجده في رواياتها التي تتحدث عن الريف المصري الحديث ومعاناته، ومنها رواية اليوم السادس، وهي نفسها حكاية شريط يوسف شاهين، التي تحكي عن مرض الكوليرا الذي ألمّ بربوع مصر في فترة حكم الملك فاروق وحصد عدداً كبيراً من الأرواح بلا رحمة.
في روايتها تلك، عبرت شديد عن الثنائية التي عاشتها… وربما «الثلاثية»، فهي شامية الأصل تربت وتعلمت في القاهرة تكتب بالفرنسية عن الشرق الذي لم يغادرها لحظة رغم أنها غادرته جسدياً منذ الأربعينيات ولم تأته إلا كسائحة في زيارات متباعدة. رحلت في يوم أحد هادئ قبل ثلاث سنوات عن 90 سنة، ولكنها ظلت منتمية للإنسانية جمعاء، فهي التي قالت «إني أنتمي إلى بلد بلا علم وبلا حبال توثقني للأرض“.
داليدا أو يولاندا جيولوتي بطلة الفيلم. إيطالية مولودة في إحدى حارات حي شبرا القاهري العتيق. هذا الحي الذي كان في زمن غابر يضم أجانب ومصريين مسلمين ومسيحيين ويهود. كان «كوزموبوليتانيّاً» بامتياز، قبل أن يغادره الأجانب بعد ثورة 1952. من هنا، من حي شبرا، كانت انطلاقة يولاندا الفنية، لتحلق في فضاء الشهرة بصوتها المميز وحيويتها، كما كانت من القلائل الذين غنوا بأكثر من 12 لغة. جابت دولاً كثيرة، قبل أن تعود إلى التمثيل في مصر في ثمانينيات القرن الماضي في دور الأم «صدّيقة» المفجوعة بابنها الذي أصيب بالكوليرا. بعد فترة وجيزة من عودتها، انتحرت داليدا بسبب إحباط عاطفي وحياة ممزقة. يذكر أنها في سبعينيات القرن الماضي، فازت في مسابقة ملكة جمال إحدى المجلات وأدّت على إثرها دوراً تمثيلياً صغيراً في فيلم مصري هو «سيجارة وكاس».
يوسف شاهين ـ جبريل أو جو ـ من مواليد الإسكندرية و»زحلاوي ابن زحلاوية» ـ على حد قول الكوميديان بشارة واكيم ـ فهو من أم وأب لبنانيين من مدينة زحلة. رغم أصوله تلك، ذاب جو «ذوباناً» تاماً في المجتمع المصري وأصبح من أشهر من عبّر عنه بعينه وكاميرته خلال مشواره السينمائي الطويل. مع ذلك، لم ينس جذوره الشامية التي استوحى منها أعمالاً جميلة مثل «بياع الخواتم» والفيلم التسجيلي «زيت الميرون».
محسن محيي الدين، هذا الفتى النحيل الشرقي الشكل والمنشأ، الذي عمده يوسف شاهين، راعيه الأول، باسم جين كيلي مصر، قبل أن ينفصلا في محنة عبر عنها المخرج الكبير بشريط سينمائي صاخب ومضطرب وبديع هو «إسكندرية كمان وكمان». كان محسن، بطل فيلم اليوم السادس إلى جانب داليدا، متعدد المواهب، يمثل ويرقص ويغني متحرراً من القيود، ومستظلاً بعين جو الذي «نفخ فيه من روحه». لكنه، لم يستمر في تحرره طويلاً، فسرعان ما انفصل عن حياته السابقة مطلقاً العنان لتدينه… ولحيته.
ماذا تبقى من هذا التابلوه الثري اليوم؟ لم يبق الكثير ربما، فكثير من العناصر التي تميزه فقدت مع الوقت: بعضهم رحل والبعض الآخر تغير، كما طبيعة البلد. في السابق، كانت مصر «تجميعة» لكثيرين صبوا إبداعهم فيها قبل أن ينتهوا وتنتهي معهم مصر إلى ما هي عليه اليوم.
صحيفة الأخبار اللبنانية