انتخابات تركيا: إردوغان و”طاولة الستة” وما تحتها
مرّ 14 أيار/مايو في تركيا حاملاً معه معطياتٍ وأرقاماً كثيرة الدلالات، وضرب موعداً جديداً للبلاد يوم الثامن والعشرين من الشهر نفسه، لتعرف هوية رئيسها الجديد.
الجولة الأولى للانتخابات فاقت التوقعات من ناحية نسبة التصويت التاريخية، ليس في تركيا فحسب، إنما على مستوى العالم أيضاً؛ فمع اقتراع ما يقارب 90% ممن يحق لهم التصويت (في الانتخابات الحالية يحقّ لـ60 مليوناً و697 ألفاً و843 ناخباً التصويت)، يمكن القول إن تركيا كلها شاركت في الاستحقاق الانتخابي.
يعود ذلك في جزء منه إلى كونها انتخابات مزدوجة، رئاسية وبرلمانية، الأمر الذي يستنهض الناخبين النشطين سياسياً وأولئك الذي يهتمون أكثر باختيار الممثلين المحليين لهم في البرلمان، لكن في أسبابه الأكثر أهمية، يعود ارتفاع نسبة التصويت إلى حدة المعركة الانتخابية وطبيعتها التي مزجت الاهتمام الخارجي الاستثنائي بالصراع الداخلي غير المسبوق على موقع الرئاسة، كما على الأغلبية البرلمانية، إضافة إلى توفر فرصة حقيقية للمعارضة التركية للمرة الأولى منذ وصول الرئيس الحالي رجب طيب إردوغان إلى السلطة عام 2003، وهي المعارضة التي اتّحدت بقواها المختلفة، ورعتها مشاعر الغرب سياسياً وإعلامياً، وواكبتها تمنياتهم بسقوطٍ تاريخي لإردوغان بعد تراكم الخلافات بينه وبينهم على أكثر من صعيد.
الأرقام تحكي الكثير عن الأمس والغد
في الأرقام، أعلنت الهيئة العليا للانتخابات حصول مرشح تحالف الجمهور إردوغان على 49.4% من الأصوات، وحصول منافسه مرشح تحالف الأمة كمال كليجدار أوغلو على 44.9% من الأصوات، فيما حصل مرشح تحالف “أتا” (الأجداد) سنان أوغان على 5.2%، وحصل المرشح المنسحب محرم إنجه على 0.44%. وبعدما لم يتمكن أي من المرشحين من تحقيق 50% وصوت واحد من أصوات الناخبين، فإن جولة الإعادة بعد أسبوعين بين المرشحين الأولين أصبحت ملزمة.
أما في الانتخابات البرلمانية، فتمكّن إردوغان من تحقيق أغلبيةٍ مع التحالف الذي يقوده، بفوزهم بـ322 مقعداً من أصل 600 هم مجموع عدد أعضاء البرلمان، في حين تمكن تحالف الأمة (الشعب) من الفوز بـ278 مقعداً موزعةً على الأحزاب المشكّلة له.
حصتا التحالفين من مقاعدة البرلمان لا تحكيان كل الحكاية؛ فكل واحدٍ منهما صاغ تحالفه بعد صعوباتٍ كثيرة ووعود واستجابة لطموحات وجهود كبرى للبحث عن المساحات المشتركة بين مشروعاتٍ سياسية وصلت إلى حد التضاد في بعض الأحيان.
تلوَّن التحالفان، لكنهما في العمق شكلا اجتماعاً نادراً لطموحات سياسية في لحظةٍ بالغة الحساسية من تاريخ البلاد. إنها من دون شك الانتخابات الأكثر أهمية في تاريخ تركيا الحديث. وعلى نتائجها يُعقد مستقبل الدولة ودورها وسنواتها المقبلة. ليس أقل من كونها ستؤسس لتركيا أخرى في النظام العالمي الذي يجري حوله الصراع الآن.
أما في الداخل؛ فإن هذا الاستحقاق مفصليٌ بين خيارين عريضين تمثلا بالاتجاه العام لكل واحدٍ من التحالفين؛ الأول يريد من خلاله إردوغان تثبيت مشروعه الذي يعيد إلى تركيا روح الدولة العثمانية ووجهها الإسلامي، فيما يريد الآخر استعادة روح مصطفى كمال أتاتورك، وإعادة تثبيت الطابع العلماني للدولة الذي تأثر خلال العقدين الماضيين من حكم إردوغان.
ختام الحملتين الانتخابيتين لإردوغان وكليجدار أوغلو عبّر عن هذين الاتجاهين المتصارعين في تركيا؛ الأول ختم حملته عشية يوم الانتخاب في آيا صوفيا الذي أعاده سيرته غير الأولى؛ مسجداً مهيباً من مساجد السلطنة العثمانية. أما الثاني، فأراد استباق الصمت الانتخابي أمام ضريح أتاتورك.
الخطابات الانتخابية كانت ملأى بالرموز والإشارات، وبالألعاب والمؤامرات أيضاً. عادت حيلة “الكاسيت” إلى الفاعلية قبل ساعاتٍ فقط من يوم الاقتراع. والهدف كان محرم إنجه، أو على وجهٍ أدق الـ2% وأكثر قليلاً من الأصوات التي منحتها له الاستطلاعات قبيل الانتخابات. هذه النسبة بانت أهميتها بعد صدور النتائج، وإن لم تبنِ عند إنجه نفسه، بحصوله على 0.4% فقط بعد اضطراره إلى الانسحاب.
الصراع على الرئاسة بدا أثره بصورةٍ بالغة على انتخابات البرلمان، وخصوصاً بعد هزيمة المعارضة في الأخيرة. اضطر كليجدار أوغلو وحزبه الشعب الجمهوري (CHP) إلى تقديم تنازلاتٍ كثيرة بغية جمع التحالف حول ترشيحه الرئاسي. النتائج تقول ذلك، إذ لم يتبقَ للحزب سوى 134 مقعداً من أصل 278 فاز بها التحالف.
ومن حصّته، هناك 10 مقاعد لحزب المستقبل الذي يتزعمه أحمد داوود أوغلو، و15 مقعداً لحزب الديمقراطية والتقدم بقيادة علي باباجان، و9 مقاعد لحزب السعادة. تضاف إليها حصص الأحزاب الأخرى، ومنها 62 مقعداً لحزب اليسار الأخضر، الوجه الجديد لحزب الشعوب، و44 مقعداً لحزب الجيد، و4 مقاعد لحزب العمال التركي.
تأثرت الأحزاب الكبرى سلباً، وحصلت أحزاب صغيرة على مقاعد لم تكن تستطيع الوصول إليها من دون التحالف والظرف السياسي الذي حملها إلى البرلمان. يؤشر كل ذلك إلى وضعية صعبة للتحالف بعد الانتخابات.
لكن قبل ذلك، الصورة على المقلب الآخر أيضاً شهدت توزيعاً لمقاعد البرلمان على الأحزاب المتحالفة. المقاعد الـ322 ذهب منها 266 إلى حزب العدالة والتنمية الذي يتزعمه إردوغان، و51 مقعداً إلى الحركة القومية، و5 مقاعد إلى حزب الرفاه الجديد.
التحالف هنا يبدو أكثر تماسكاً مع وجود أغلبيةٍ كبرى للعدالة والتنمية مقارنةً بالأحزاب الأخرى، لكن مع ملاحظة شديدة الأهمية، هي أن إردوغان، وإن تمكن من الفوز بالرئاسة في الدورة الثانية، سيبقى بحاجةٍ إلى 96 صوتاً في البرلمان من خارج حزبه، في حال أراد الحصول على موافقة البرلمان على مقترح تعديل الدستور قبل طرحه على الاستفتاء العام.
وإذا حافظ على التحالف مع الحركة القومية والرفاه الجديد، اللذين حصلا على 66 مقعداً معاً، يبقى بحاجة إلى 38 صوتاً من النواب الذين نجحوا على لوائح التحالف الآخر (مقترح التعديل الدستوري يحتاج إلى 360 صوتاً في البرلمان)، الأمر الذي يبقى معقوداً على تفاعلات الحياة السياسية بعد الانتخابات، التي ستشهد بالتأكيد تحولاتٍ في المواقف وتغيرات كثيرة في الخارطة السياسية.
طاولة الستة وما تحتها
يتقدّم إردوغان بأكثر من مليوني صوت قبل الجولة الثانية، فيما الأصوات التي يمكن للمرشحين التفكير فيها تتوزع كالآتي: 8 ملايين من الأتراك لم يصوّتوا، وهؤلاء يشكلون نسبةً قليلة جداً (نحو 8%) قياساً إلى الذين يحق لهم التصويت. هناك أيضاً نحو 2.8 مليون ناخب أعطوا أصواتهم لسنان أوغان، وأقل من 300 ألف صوتوا لمحرم إينجه رغم انسحابه، وبقي هناك ما يربو على مليون ورقة ملغاة أو غير صالحة.
من أجل الفوز، يحتاج كليجدار أوغلو إلى كل شيء الآن. إلى ما فوق طاولة الستة من أصوات محقّقة، بحسب نتائج الجولة الأولى، وإلى ما تحتها من استدراج أصواتٍ من أوغان وإينجه، ومن الذين امتنعوا عن التصويت إذا أمكن، إضافة إلى استمرار زخم الدعم الخارجي تحت الطاولة نفسها، بحيث يستعيد الأمل بفوزٍ بدا في فم منافسه الّذي لامس حافة العبور من الجولة الأولى، ثم أفلت.
إردوغان أيضاً يحتاج إلى الحفاظ على تفوّقه، وعدم خسارة شيء من نسبة تأييده، بفعل تراجع حماس القوى المتحالفة معه بعد حصولها على مقاعدها البرلمانية، كما بعض مؤيديه الذين قد يعتبرون فارق النقاط المئوية الأربع عن كليجدار أوغلو مريحاً. سيسعى حتماً إلى استمالة أصوات جديدة من النسب التي بقيت خارج التصويت لمنافسه بصورةٍ مباشرة.
ثمة لفتة أخرى مهمة. الـ0.4% التي حصل عليها محرم إينجه لا تمثل قاعدته الناخبة، إذ إنها أصوات إينجه المنسحب، في حين أن الاستطلاعات أعطته ما يفوق 2% من الأصوات قبل يوم التصويت.
منطقياً، لا يمكن لمرشح منسحب -بقيت خانته على أوراق الاقتراع لأنه انسحب بعد طباعتها وقررت الهيئة العليا للانتخابات أنها ستبقى أصواتاً صحيحة- أن يحصل على نسبة الأصوات نفسها فيما لو استمر في ترشيحه.
تفاصيل قضية “الكاسيت” وتهديده بفضيحة جنسية تبين أن الصور التي روجت في إطارها متلاعبٌ بها، وأجبرته على التنحي عن ترشيحه، لكن هذه التفاصيل أيضاً ومساهمة أحزاب المعارضة وأحد مراكز استطلاعات الرأي في نشرها قد تؤدي إلى ذهاب بعض أصواته إلى إردوغان، على الرغم من أنباء تشير إلى أنه سيخرج علناً ليعلن دعم كليجدار أوغلو، وأنباء أخرى تشير إلى عرض موقع وزاري عليه في حال فوز الأخير؛ فقضية “الكاسيت” لم تؤثر في إنجه وحده، بل في جمهوره أيضاً، وهم الناخبون.
شيءٌ آخر إضافي. الحماسة هي الكلمة المفتاح في الجولة الثانية. من يحافظ على مستوى متفوق من تحفيز الناخبين سيفوز. هذه الفكرة ربما تكون وصلت إلى رأس أحمد داوود أوغلو حين تقمص شخصية مراد علمدار في مسلسل “وادي الذئاب” الشهير، واستعاد جملته الشهيرة بعد صدور النتائج: “من دون أن نقول انتهت، لن تنتهي. كل شيء بدأ من جديد”.
الجولة الثانية ستكون صعبة بالتأكيد، لكن التوقعات انقلبت الآن. إردوغان في المقدمة، والمعارضة ستعاني للحاق به خلال أسبوعين فقط. لا يساعدها في ذلك أداء رئيسي بلديتي إسطنبول وأنقرة أكرم إمام أوغلو ومنصور ياواش؛ الأول تتراكم حوله الاتهامات بالفشل في إدارة البلدية، إلى درجة يعتبرها البعض أكثر العهود سوءاً في المدينة الكبرى، إضافة إلى ذهابه بعيداً في الحملة الانتخابية، إذ جذب كل الأنظار إلى أسلوبه ونبرته، على الرغم من اللغة الاستفزازية التي تعمّدها ضد تحالف الجمهور.
أما ياواش، فلم تسجل له نجاحات ملحوظة، وذهب أيضاً بعيداً في الانتخابات الحالية. تمكن الرجلان مع معطياتٍ أخرى من تأمين تفوق لتحالف المعارضة في المدينتين، لكنه تفوق طفيف تهدده المعطيات الأخرى، خصوصاً إذا اجتمع فوز تحالف الجمهور في البرلمان والرئاسة.
ذهبت المعارضة إلى أقصى طاقتها من الداخل والخارج، وحصلت على 44.9% من الأصوات. من دون ذلك، لن تتمكن من الحصول على الرئاسة. هي في الوقت نفسه خسرت البرلمان، ما يجعل فوزها بالرئاسة، فيما لو حصل، مشوباً بالتراجع عن وعود رئيسية من حملتها الانتخابية ومن أسباب اجتماعها.
في حال فاز كليجدار أوغلو، لن يكون في مصلحته الدفع باتجاه النظام البرلماني بدلاً من الرئاسي؛ فحزب العدالة والتنمية وحلفاؤه يقودون الأغلبية البرلمانية. سيكون قد حصل على السلطة في قصر الرئاسة، وأعادها إلى إردوغان في البرلمان.
تحالف المعارضة معقد جداً. هذا التعقيد الذي كان مصدر القوة قبل الانتخابات هو مصدر التهديد الآن. التفكير يذهب الآن إلى سيناريوات تفككه فيما لو خسر كليجدار أوغلو هذه المرة. أحد الساسة المعارضين قال إن عليه أن يترك السياسة في اليوم التالي لـ28 أيار/مايو.
بُني التحالف على طموحات ومشروعات وتلاقي مصالح. تأمنت بعض المصالح في الانتخابات البرلمانية، لكن الخسارة في الرئاسة ستودي بالطموحات والتقاء المشروعات، وربما بالوحدة بعد ذلك.
أما سيناريو الفوضى، فهو متوقع إذا اقتربت المعارضة إلى حد التماس مع نسبة التصويت لإردوغان، بمعنى أنها إذا تمكنت من الحصول على نسبةٍ متقاربةٍ جداً، ربما تذهب إلى تفعيل سيناريو دعاوى التزوير ورفض النتائج، وتزخيم ذلك كمقدمة لحراك سياسي يشبه الثورات الملونة.
ربما يكون تفادي ذلك في الجولة الأولى قد حصل بسبب عدم حصول إردوغان على عتبة 50%، ولوجود فارق كبير بين المرشحين، وإلا فإن هذا السيناريو كان وارداً.
الاتحاد النادر للمعارضة وتداعيات الزلزال والأزمة الاقتصادية وتراجع سعر العملة والتوتر مع الغرب وانعكاسات كورونا لم تودِ بإردوغان، ما يقود إلى الاعتقاد بأن هذا سيستتبع زخماً جديداً له في السنوات الخمس المقبلة، ووعياً جديداً في المشهد السياسي التركي فيما لو فاز مجدداً.
لكن حسابات إردوغان ليست مطمئنة تماماً، فسنان أوغان يقف الآن في موقفٍ مميز. الجميع يحتاجه. إذا ذهب بكامل أصواته باتجاه المعارضة، سنكون أمام تنافسٍ على كل صوت، لكن التهديد الحقيقي الذي بدا في الانتخابات لوضعية إردوغان قد يكون حافزاً كبيراً لزخم جديد في الداخل في حال فوزه، وسيذهب أبعد في رهاناته الخارجية على خياراته، وخصوصاً بعدما لعب الخارج ضده في الانتخابات.
بعد كلّ ذلك، هناك قضايا الخارج التي تنتظر حسم المعركة الانتخابية التركية لتستكمل حساباتها. الروس والسوريون والإيرانيون يبنون مسارات جديدة مع تركيا. الأميركيون كانوا ينتظرون الكثير من المعارضة، ولكن إن فاز هو، فتركيا تبقى حاجة لمصالحهم التي ستحدث ترجماتها في كل مكان، ربما تتغير لهجتهم معه إيجاباً بعد إثبات قوته.
هو أيضاً سيكون الآن أمام حقائق جديدة؛ الانتخابات الصعبة التي ألزمته على جولة إعادة للمرة الأولى، اتحاد المعارضة وحصوله على أصوات نصف الأتراك بعد 20 عاماً من حكمه، الجيل الجديد الذي قال إردوغان نفسه إنه لا يعرف ما مرت به البلاد وماذا فعل لأجلها. هذا يشير إلى أن تركيا بعد الانتخابات، وبصرف النظر عن الفائز، تكون أمام وعيٍ جديد بذاتها وبمشروعها في النظام العالمي.
الميادين نت