اندفاع تركي وشراهة فرنسية: الخطر الأمنيّ يخيّم بلبنان
اندفاع تركي وشراهة فرنسية: الخطر الأمنيّ يخيّم بلبنان…يزدحم، هذه الأيام، الخط البحري بين مدينتي إسطنبول التركية وطرابلس اللبنانية بالسفن المحمَّلة، على دفعات، بخمسمئة طن من المساعدات الغذائية لأجهزة الأمن اللبنانية. وفي افتتاح منتدى أنطاليا الأخير، سمع وزير الخارجية اللبنانيّ، عبد الله بو حبيب، تعهُّداً مفاجئاً من نظيره التركيّ، مفاده نية تركيا ترميمَ مبنى وزارة الخارجية اللبنانية، الذي تضرَّر بفعل انفجار مرفأ بيروت، مع العلم بأن جهاز قوى الأمن الداخليّ (الذي سيحمل عناصره بفرح إلى أُسَرهم الكراتين الممهورة بالعلم التركي)، كان يُعَدّ واحداً من أهم الاستثمارات السياسية – الأمنية لواشنطن والرياض في لبنان، في الأعوام السبعة عشر الماضية، قبل أن تقرر الولايات المتحدة، نتيجة أسباب مجهولة، الإغداق على الجيش اللبناني بدعمها، غذائيّاً ومالياً، وحجب الدعم عن الأجهزة الأخرى.
وفي موازاة القنوات الرسمية التركية، يتوسع الحضور التركي المنضبط والحذر جداً في إنفاقه الماليّ، في أكثر من اتجاه، ليس في شمالي لبنان فقط، ولا في أوساط الطائفة السنية حصراً، مع العلم بأن ما كان يقال عن حضور تركي في الشمال اللبناني، كان ولا يزال أكبر كثيراً من حجمه الحقيقي. ومع ذلك، فإن الأتراك أظهروا أخيراً، عبر الخطوتين السابق ذكرهما، اهتماماً كبيراً مفاجئاً بلبنان، كأنهم لمحوا فرصة في تحقيق اختراق ما، في ظل الانكفاء الخليجي والانشغال الروسي.
هذه الاستفاقة التركية أتت بُعَيد فوز شركة فرنسية بإدارة محطة الحاويات في مرفأ بيروت وتشغيلها وصيانتها، والتي تشكل أساس المرفأ. وما كاد العلَم التركي يرفرف لاحقاً في مرفأ الشمال، حتى أنهى السعوديون مرحلة الحرَد، وبدأوا تسريب نيتهم العودة إلى بيروت، مع العلم بأن الفرنسيّ يعود إلى بيروت رسمياً اليوم من بوابة المرفأ، وهو دخل المرفأ عن طريق وزير حزب الله للمرفأ وللأشغال العامة والنقل، علي حمية، الذي منح الفرنسيين الأولوية على الألمان والروس والصينيين، في وقت ينشغل حمية عن الأفكار الصينية بتطوير سكة القطار واستحداث قطارات وغيرهما بـ “ترقيع” قطاع النقل اللبنانيّ بعشرات الباصات الفرنسية، مع العلم بأن وزير حزب الله للصحة السابق، حمد حسن، كان ذهب مع وزير الصناعة يومها، عماد حب الله، إلى موسكو برفقة وفد لبنانيّ كبير، من أجل الاحتفال بتوقيع اتفاقية مع “صندوق الاستثمار الروسي المباشر” لتصنيع لقاح سبوتنيك المضاد لفيروس كورونا في لبنان، قبل أن يغادر الوزير الوزارة ويتراجع تأثير الفيروس من دون أن “يضرب الروس ضربة واحدة” في استثمارهم الصحي – الصناعي – الإعلاني في لبنان، تماماً كما حدث في خزّانات الغاز، التي وقّعت وزارة الطاقة اللبنانية كل القرارات المطلوبة لإنشائها في شمالي لبنان، مُحمِّلة التيار الوطني الحر التداعيات السياسية لذلك، من دون أن “يضرب الروس هنا أيضاً ضربة واحدة”. وهو ما يسمح بالقول إن الروسي كان لديه حجر أساس، يتمثّل بخزانات الغاز الاستراتيجية ليبني عليه، لكنه استعان بذرائع كثيرة من أجل عدم البناء، بعكس الفرنسي الذي فعل كل ما يلزم ليحصل على الاستثمار الأهم في مرفأ بيروت، ويبدأ البناء عليه.
يمكن القول هنا إن الروسي غير متحمّس، بينما الفرنسي والتركي متحمسان. ولا شكّ في أن حماسة كل منهما تستفزّ الآخر ليحاول التقدم عليه. وإذا تبيّن فعلاً أن لدى التركي نية في بناء نفوذ في لبنان، فإنه لن يكون أمام فرنسا والخليج إلاّ خيار من اثنين، أحلاهما مُر: مصالحة سعد الحريري، والوقوف على خاطره، ودعمه مالياً وخدماتياً، أو مصالحة الرئيس السوري بشار الأسد، والوقوف على خاطره، وإطلاق يده، أو الأمران معاً، في حال أثبتت الأيام المقبلة أن أطماع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان جدية وكبيرة.
يؤخذ في الاعتبار، هنا، أن كلاً من الفرنسي والتركي يحرص، من جهته، على التنسيق مع حزب الله، وعدم التشاطر أو التحدي أو الاستفزاز. ولا شك، في هذا السياق، في أن كثيرين من السياسيين والمحللين والكتّاب ورجال الدين لا يلتفتون إلى طبيعة المتغيرات المحيطة بهم، سواء تلك الدولية أو الإقليمية أو المحلية. ولا يعرف هؤلاء، مثلاً، أن الفاتيكان بدأ – قبل أشهر – عبر سفارته في بيروت تواصلاً مباشراً ووطيداً ومتماسكاً وواضحاً وصريحاً مع حزب الله، ويُحْتَمَل جداً أن يُتَوَّج بزيارة رسمية لوفد من حزب الله للفاتيكان، في ظل تقاطع واضح وكبير في النظرة والتوجهات بين فرنسا والفاتيكان.
من المعلوم أن التركي المندفع، والروسي المتردّد، والخليجي المنكسر، والفرنسيّ الشَّرِه، ليسوا وحدهم، فلقد سبقهم جميعاً الإيراني في بناء نفوذ متماسك وراسخ ولا حدود لقدراته. ويكفي، في هذا السياق، التوقف عند قول وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، لـ”الميادين” إن رئيس الوزراء اللبناني نجيب ميقاتي رحب بالأفكار الإيرانية للمساعدة في موضوعَي الكهرباء والغاز وغيرهما، لكنه ربط التوقيت بما بعد الاتفاق النووي، بحيث إن إيران بعد الاتفاق هي غير إيران قبل الاتفاق، لجهة قدرة البلديات واتحادات البلديات، في كامل الأراضي اللبنانية، على التعاون معها في بناء معامل كهرباء وتحديث البنية التحتية، وغيرهما كثير، من دون انتظار موافقة المراجع العليا، بموازاة إسقاط الاتفاق للذرائع التي تختبئ خلفها الحكومات اللبنانية المتعاقبة.
وإذا كانت هذه هي أوضاع التركي والفرنسي والخليجي والإيراني، لبنانياً، فإن السؤال الأبرز يرتبط بالأميركي!
على المستويين الإقليمي والدولي، بات من الواضح أن الأميركي “يوسّع الكوع” للانعطاف في الملف الإيرانيّ من دون تقديم إيران أي تنازل سياسي. ولم ينجح الفريق الإسرائيليّ – السعوديّ في إلزام واشنطن بالوقوف على خاطريهما. والانتقال أميركياً من حال العداء لإيران إلى مرحلة عدم العداء لها، له تداعياته طبعاً على كل المنطقة، بما فيها لبنان، حيث يكتفي الأميركيون اليوم بلملمة أشلاء مشروعهم الفاشل الأخير، والمتمثّل بمجموعات المجتمع المدني والثورة، وغيرهما من التسميات، ويحاولون الحد من خسائرهم، عبر تثبيت قدمَي حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بما يملكون من أدوات إعلامية ومالية، لكنهم لا يملكون، كما بات واضحاً، مشروعاً أو هدفاً يمكن تحقيقه، غير الإبقاء على حصارهم، اقتصادياً وكهربائياً ونفطيّاً، بحيث نجحت ضعوطات القوات اللبنانية وبعض أفرقاء المجتمع المدني في إقناع عوكر بعدم السماح بإمداد لبنان بالطاقة الكهربائية من مصر.
وتمّت فرملة الاندفاعة الأميركية في ملف ترسيم الحدود، عبر طرح مسوّدة تعجيزية لا يمكن للبنان القبول بها، من أجل تعطيل الترسيم، وما يتبعه من عودة إلى شركات التنقيب عن الغاز قبل الانتخابات النيابية، بحيث لا يوجد أي موعد لهوكشتين في الأفق، كما لم يحسم لبنان إذا كان سيقدّم رداً مكتوباً على ورقة الوسيط الأميركي، أَم يكتفي بالملاحظات الشفهية، وهو ما سيُحسَم في اللقاء الثلاثي الثاني للرؤساء اللبنانيين الثلاثة، والذي لم يتحدَّد موعده أيضاً بعدُ، مع العلم بأن قيادة الجيش، التي تشارك في اللجنة المخصصة لدرس الاقتراح الأميركيّ، تراجعت في المداولات الأخيرة للجنة عن الخط الـ29، وتبنّت، على الرغم من كل المزايدات الإعلامية، مبدأ كونه خطاً تفاوضيّاً فقط.
وفي موازاة انعدام الرؤية أو المشروع الأميركي للبنان، وعدم الاكتراث الأميركي، في هذه اللحظة تحديداً، لمشاعر السعودية و”إسرائيل” أو لحساباتهما، يبدو واضحاً أن جزءاً كبيراً من الدور الذي يتطلع الفرنسي إلى أدائه، اقتصادياً ومالياً، إنما يريد أخذه من درب الأميركيّ، فلقد عاد الفرنسي إلى الاقتصاد من بوابة المرفأ، وهو موجود في القضاء، من خلال رئيس مجلس القضاء الأعلى سهيل عبود، وجمعياته أكثر جدية وحضوراً من الجمعيات المموَّلة من الأميركيين، بينما يضع عينه على حاكمية مصرف لبنان، المحسوبة اليوم عبر سلامة على الأميركيين، مع العلم بأن القضاء الأوروبي كان له الدور الأكبر في زعزعة الحاكمية، بالإضافة إلى استيعابه التمرد السعود،ي وحلوله محل الأميركي في توجيه السعوديين وإدارتهم لبنانياً.
وسط هذا كله، لا يمكن للخضّات المالية أن تؤدي دوراً كبيراً في تعزيز نفوذ على حساب آخر. لكنْ يمكن للخضات الأمنية، أمام هذا النموذج من الصراع على النفوذ، أن تؤدي دوراً كبيراً ومؤثّراً ومفصلياً، في ظل خبرة بعض الدول المذكورة أعلاه في استخدام الأوراق الأمنية، وخصوصاً في ظل الانشغال العالميّ بأوكرانيا. وهو ما يفتح الباب اللبنانيّ أمام مخاطر أمنية كبيرة حتى نضوج التسويات النهائية، واتفاق الدول الكبرى والوسطى على التقاسم الجديد للنفوذ في المنطقة.