كتب

انعكاسات اجتماعية ونفسية للحواجز الإسرائيلية في ‘عبور شائك’

صلاح صلاح

رواية باسمة التكروري تبرز الصراع بين ثنائيات الحياة وتأثير الاحتلال الإسرائيلي على الهوية الاجتماعية والنفسية لشخصيات تعيش في مدينة القدس وتعكس بالسرد العميق والبصري معاناة الأفراد اليومية وتسلط الضوء على موروث المدينة وتحدياتها الحديثة.

 

إننا نمعن في الثنائيات المتقابلة، الحياة وأضدادها، هكذا وجدت نفسي أفكر وقد انتهيت للتو من رواية “عبور شائك” لباسمة التكروري. لقد أخذ هذا وقتًا طويلًا – نسبيًا – وأنا أخوض في تلك الرحلة المفعمة لأبطال الرواية.

يسلك المؤلف هنا، نهجًا استثنائيًا، إذ يخوض غمار الكتابة عن تجربة مترابطة بين ثنائيات مختلفة، أولها الاحتلال الإسرائيلي الذي يجري كل شيء تحت بطشه، والآخر في الطبيعة البشرية ذاتها، ثالثًا رصد آثار واقع الاحتلال.

أحداث الرواية تجري في مدينة السلام – المفترض – أن تشكل وفق مفهوم الوعي الإنساني – المتأتي – من التصور الديني، مدينة سماوية، وفي الإفراط التخييلي الشعبي والأسطوري المستقبلي – المدينة التي ستنزل يومًا ما من السماء – وفق مفاهيم الديانتين اليهودية والمسيحية. وفي الديانة الإسلامية هي أيضًا مدينة مقدسة ضمن مفهوم آخر يبتعد كليًا عن المفهومين السابقين.

على القارئ بطبيعة الحال مراعاة كل هذا التشابك الديني الذي يضاف إلى التركيبة السكانية للمدينة نفسها. حسب السرد الذي تقدمه الكاتبة، تقسم المدينة إلى ثنائيات متعددة، تم اختيار نموذج هو مجموعة الأحياء السكنية التي تمثل إيقاعًا حركيًا للتنوع الإثني.

من هنا يخوض السرد في تجربة احتلال كامل وفصل عنصري وهو الأهم والأخطر، ثم يتناول بإشارات عميقة تخريب الاحتلال للبنية الاجتماعية لجيل الشباب مستعينًا – طبعًا – بالإرث الاستعماري الأوروبي في تفتيت المجتمعات عبر نشر المخدرات كمثال. بهذا الشكل تكون باسمة التكروري قد ركزت بؤرة السرد على رصد الآثار الاجتماعية عبر حاجز قلنديا.

التداعيات التي تناولتها الكاتبة تبدأ مع شخصية زياد، حيث يبدأ الحدث عبر تحليل الآثار النفسية لموت الأب، وعبر تحليل الحوارات الذاتية للشخصية نفسها.

شخصية زياد هي من الشخصيات المعقدة والتي استخدمت في وضع القارئ داخل الحيز النفسي، ومع التقدم في القراءة ستدخل إلى عوالم كاملة تكون فيها أنت كقارئ متابعًا للأثر النفسي الذي سيحيط بك. من هنا، من زياد تحديدًا، سيكون المدخل الثاني لفهم ماذا يعني أن تكون في مدينة مثل القدس.

تقيم باسمة في “عبور شائك” الصلة بين “المعرفة البصرية” وبين الجو العام للمدينة – تحت الاحتلال – وبين الشخصيات. وبحرفية عالية، ترسم تصورًا بانوراميًا عن الحياة.

اختار الكاتب حيًا ذا حراك اجتماعي مرتفع والخفي عنا كقراء من خارج المكان – لترينا التفاعلات اليومية في قاع المدينة. ركز الكاتب على ارتفاع الحي السكني – حيث الحدث – عن أحياء أخرى وعبر مدخل – نافذة مطبخ – قد يبدو منظر مدينة عبر نافذة شيئًا عاديًا ربما، لكنه ليس كذلك، فرؤية مكان واسع من مكان ضيق هو تفسير لرؤية شخصية عن ما يمكن أن أسميه – رسم الدلالة النفسية. ثم يرصد الكاتب حوارًا ذاتيًا ممتعًا لاحتراق طبخة – المجدرة – وتفاعلاتها النفسية مع نفس الشخصية، ثم يعبر إلى مشهد الوقوف في طابور هائل من أجل اجتياز حاجز من القدس إلى مناطق الضفة الغربية التي هي أساسًا أو يفترض أنها خارج سلطة الاحتلال.

تتقصى “عبور شائك” حكايات وأحاديث عن خطورة الحواجز الإسرائيلية، عبر عدة شخصيات ولكل منها أسبابها وزاوية النظر، من إطلاق رصاص – الأرض الحجرية – هناك أيضًا الرؤية الواقعية لعالم الاقتراب من الموت وزاوية نظر عين إلى الأرض والأشجار من مستوى الأرض نفسها. عند الحاجز أيضًا ترصد باسمة إهانات جنود الاحتلال باستخدام المفردات الشعبية العربية، حرص الكاتبة على ذكرها يمنح القارئ الأثر النفسي لها والاستخدام (ربما يشير إلى ذوبان الاحتلال المستقبلي في ذات المدينة وعلينا الانتباه إلى التهام المدينة القديمة وشعبها للغزوات المتلاحقة التي انصهرت داخلها).

هناك أيضًا – على الحاجز – الوقت أو الهدر الزمني من الحياة نفسها الذي عالجته الكاتبة بحرفية الحوارات والوعي الشخصي.

الوصف كما أشرت سابقًا وبدقته يدخلك في حيز تحسس الألم الفردي للشخصيات المتحركة. إن الأنفاس والروح والقلب وكل الجسد تتحرك معًا، في حاجز قلنديا ومعه حركة عدسة التصوير، وفي الانتقالات السريعة والتوثيقية.

إذا ابتعدنا عن حيز المشاعر الإنسانية المتداخلة والمضطربة ضمن جو الاحتلال، تمضي الرواية إلى سرديات ثانية هي، الأساطير أو الموروث الشعبي عن الجن (الصلاح) وإلى أثره في حياة الناس – في هذا الحي – وتركز الكاتبة عبر التداخل وعبر التكرار المقصود إلى الأساطير أو التراث الغيبي الذي استعان به وأضافه الكاتب إلى الإرث الأسطوري التراكمي للمدينة، التي تم تأسيسها وتستمر بالحياة منذ أن خط العرب (اليبوسيون) دوائرها.

إن كان الكاتب يتحدث عن تراثيات إسلامية فإنه لا يفصله بل يضيفه إلى إرث آخر عبر استخدام مفاهيم برك سليمان – كمثال – وأسماء الأزقة الحجرية والكنائس. ليصنع لنا الكاتب جوًا من الرموز المعرفية.

في مكان آخر من الرواية يصف لنا الكاتب، أساليب المقاومة داخل سجون الاحتلال، تلك الزمجرة الخفية للمقاومة والحذر، حيث تكون إحدى الشخصيات قد دخلت السجن لأسباب متعلقة بالمقاومة، فتتلقى باعتبار أن هذه تجربتها الأولى النصائح المهمة والأساسية للتغلب على الخداع الإسرائيلي. يتمثل هذا بوضع مخبرين داخل الزنزانة لمراقبة الموقوفين والحصول على اعترافات تستخدم ضدهم.

تتناول الرواية أيضًا مفهوم الأمومة، إذ تعرض نموذجًا منها، هي الأم التي أرادت تخليص ابنها بإرساله إلى أوكرانيا. بغض النظر عن شرعية المقاومة وضروراتها فإنها تتصرف بأنانية تحت تأثير الدافع الغريزي لحماية الأبناء. عليك أن تقيم أنت كقارئ توازنًا بين الحالتين.

في المجمل أعطتنا الرواية تصورًا كاملًا لشخصيات تعيش تحت عناوين مختلفة لاحتلال يستخدم أساليب متنوعة لإبادة شعب كامل ومن يتبقى منه إزاحته وتهجيره عن أرضه. هذه قصة ورواية من قلب الحدث للحدث نفسه.

شكرًا باسمة التكروري.

ميدل إيست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى