انفجار المجتمع لا الدين

هل انفجر الدين؟ أو هل انفجر المجتمع؟

هل وصل الدين إلى النهايات المنطقية للبنية الذهنية عند أتباعه، أو بعضهم؟ وكل بنية ذهنية تندفع إلى نهاياتها وحدودها القصوى تنفجر من داخلها… أم هل وصل المجتمع إلى نهاياته التاريخية، فتحوّل إلى تدمير نفسه؟ وهناك مجتمعات ذات دول وإمبراطوريات زالت من التاريخ (ولم يبق من ذكرها إلا الأقاصيص) في أوروبا وآسيا وأميركا وأفريقيا؛ وبعضها وُجدت آثارها تحت الغابات في أميركا الوسطى والجنوبية أو تحت الرمال في شبه الجزيرة العربية. تصل المجتمعات إلى نهاياتها عندما تجد الطريق مسدوداً أمامها، وتجد نفسها محاصرة من الداخل أو من الخارج، أو من كليهما.

حصار من الداخل سببه الوعي الزائف؛ الوعي السياسي الذي يدور حول الله ومرضاته لا حول الإنسان وتنمية مجتمعه وتلبية حاجاته. الإنسان هنا كمٌ مهمل لا يستحق الاحترام، ولا حق له إلا الإيمان الذي غالباً ما يكون الرأي المتشنج لقادة متشنجين جهلة متسلطين يفوقون الاستبداد في وحشيتهم؛ وسببه أيضاً الوعي المعرفي الذي يعتبر «العلم» معرفة بالله وإرادته وصفاته وليس معرفة بالطبيعة والإنسان، وبالعلاقات بين الناس، وبالعلاقات بين أجزاء الطبيعة، وتأثيرات كل منها بالآخر؛ علم يقتصر على حفظ الأقوال التي غالباً ما يجري تردادها لتبرير القتل والاغتيال والتدمير.

تحاصرنا من الداخل بيئة ذهنية تعتبر أن «العلم»، أو الوعي، يهبط إلينا من بضع مقدمات نعتبرها بديهيات، فكأننا لا نزال أسرى «علم الكلام» الذي يدور حول الله وصفاته؛ ومن هذه الصفات نعرف إرادته، ونعرف ماذا يطلب منا ومن غيرنا في كل ما يستجد. ربما كان بعضنا يجيد استخدام الأدوات ومنتجات العلوم الحديثة، لكننا لا نجيد العلم أي اكتشاف القوانين، قوانين الطبيعة والإنسان، التي هي في أسس التكنولوجيا وقبلها. نستهلك التكنولوجيا بما في ذلك الميديا والإعلام لبث الرعب، ولا نعرف صناعة أية من الأدوات التي نستخدمها في سبيل ذلك، لم نتحوّل من الاستنباط (استنتاجات كثيرة مستخرجة من بديهيات ومسلمات قليلة) إلى الاستقراء (استنتاجات ترتكز على معلومات كثيرة نكتشفها بالتحري والملاحظة لمعرفة قوانين العلم وخلق الطبيعة وبداية الكون ونهاياته).

ندور حول أنفسنا؛ نراوح مكاننا، فكأننا ما نزال نعيش قبل 15 قرناً. تنتشر السلفية (وعلى أساسها الصوفية والمذاهب الوهابية وغيرها) لأننا نريد العيش في الماضي، وما زلنا نستنكف عن صنع المستقبل. ندمّر المستقبل لأننا نعجز عن صنعه.

حصار من الخارج. دول حولنا، تمارس هجاءها بالقول إن لا مصلحة، فكأن أية دولة في التاريخ وفي كل نواحي الأرض تتصرف بغير مصالحها. ولماذا لا تكون لنا دولة تتصرف على أساس مصالحها؟ وهل من دولة تتصرف على أساس مصالحها إلا تلك التي تنطلق من مصالح شعبها وتعرف تلك المصالح؟ دولنا الناقدة للشرعية بسبب تنكّرها لمصالح شعوبها وإرادتها ورغباتها، هي دول ضعيفة مضطرة إلى الالتحاق بالدول الكبرى الأجنبية وتنفيذ قراراتها.

حصار من الخارج تقوده القوة العظمى ويندرج فيه الحكام العرب بجيوشهم وطائراتهم؛ والأرجح أن كثيرين من العديد وعتادهم مستعار من شعوب أخرى لأن الحاكمين لا يثقون بشعوبهم، ولا يثقون بأن شعوبهم متى تسلمت سوف تكون إلى جانبهم. هم في كثير من الأحيان مرتزقة مستوردون. دول نفطية من دون شعوب، تمثل لدى القوة العظمى هذا الإسلام الذي يشكّل أكثر من خمس سكان الأرض. لا يدركون مدى الإهانة اللاحقة بتلك الشعوب التي تحولت إلى الإيمان معتقدة أن فيه الخلاص. تكاد العلاقة مع الله تتحطم. لم يبادر إلى نجدتنا عندما احتجنا إليه، فكأنه أداة من أدواتنا، وكأنه موجود لتلبية أوامرنا. اعتقدنا أنه خلقنا، فصرنا نحن نظن أننا بمرتبة من يخلقه. عجز يولّد أوهاماً مريضة. نعود إلى ذكر الخلافة على الأرض، فكأن الخليفة خليفتنا، أو خليفة بعض القادة، وليس خليفة الله على الأرض.

حصار من الخارج يقصفنا من البر والبحر والجو. يُقال إنه قصف ذكي لا يصيب إلا الأهداف. نعرف من تاريخ حرب فيتنام ولاوس وكمبوديا أن القصف ليس بمثل هذا الذكاء كما يقول قادة مدججون بالأوسمة. نعرف أن القصد الحقيقي قصف كثيف يمحو عن الأرض كل شيء ويجعل منها سجادة العدم (carpet bombing).

أخرجنا العالم من إنسانيته، وأخرجنا الإنسانية من نفوسنا. شعوب مهملة، جحافل بشرية لا تعرف أين تتجه، تهاجر فتغرق في مراكب البحر والموت. مقاتلون ما أفلحوا في شيء إلا في جعل الإسلام معنى للإرهاب بنظر العالم الذي يتوسع حلفه المعادي للإرهاب، الحلف المعادي لنا. يدوخ وعينا؛ لا نعرف هل أننا نستحق ذلك أو لا نستحقه. ولا يسأل هذا السؤال إلا العاجز؛ وكلنا عجزة؛ مجتمع عاجز، مجتمعات مقعدة. نتساءل: هل حقيقة ما نحن عليه؟ ولا نعرف الجواب. لا نعرف الحقائق على أرض الواقع، لأن الواقع لم يعد يعنينا. قلوبنا وأرواحنا في السماء على الرغم من أننا ما زلنا أحياء لا نرزق. رزقنا ليس نتاج عملنا؛ هو هبة من باطن الأرض؛ مكرمة وُهبت لنا. نتسوّل الرزق ولا ننتجه. متى ما يخرج من باطن الأرض، تأخذ الحصة الكبرى منه الشركات الكبرى الأجنبية. حصار من الخارج بالسلاح والاقتصاد والسياسة. أهملنا ما بداخلنا خدمة لخارج لا يرحم. تخلينا عن إنسانيتنا، والإنسانية لا تكتسب إلا بالعمل، فحاصرنا الخارج، وصرنا هدفاً لإطلاق النار، هدفاً يفر من مكان إلى آخر.

لم ينفجر الدين، انفجر المجتمع. ربما شمل الانفجار الاثنين معاً. يصر البعض على تعبير «انفجر الدين» فكأن المجتمع بخير. مثقفون بالأجرة. يعملون على إصلاح الدين، كي يتحمّل الحكام، حكام النفط الكلفة. لا يدركون، أو لا يريدون أن يدركوا، أن إصلاح الدين لا يكون إلا بإصلاح المجتمع، وأن هذا المجتمع أراد إصلاح نفسه عندما نزل إلى الميادين بقضه وقضيضه؛ وما يحدث هو محاولة تطويق إرادته. يعني مصطلح انفجار الدين، أن الإصلاح يحدث ببعض تقنيات الحديث وعلم الكلام في خدمة الحكّام، يعني أن يصير المثقفون مرتزقة عند من بيدهم الأمر. أما مصطلح إصلاح المجتمع فهو يعني النضال مع الناس ومن أجلهم؛ ويعني العمل بالفكر والممارسة ضد الأنظمة القائمة.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى