انقسامٌ كبير حيال التعديلات: بدء العدّ التنازلي لاستفتاء الدستور

 

يولّد مشروع التعديل الدستوري جدلاً في الجزائر، مع اقتراب الاستفتاء المقرّر في الأول من تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل، بالنظر إلى الآراء الكثيرة المتعارضة التي تملأ الساحة السياسية إزاء النصّ المعروض للتصويت. وتُقدّم السلطة هذا المشروع على أنه بداية عهد “الجزائر الجديدة” والتغيير الذي طالب به الجزائريون بعد خروجهم بالملايين في الحراك الشعبي. لكن هذا الرأي يبتعد عن تحقيق الإجماع في الأوساط السياسية، لأسباب كثيرة، ترتبط أحياناً ببعض مواد النص، وأحياناً أخرى بطريقة إعداده وتمريره على البرلمان، والتي خلت – بحسب المنتقدين – من الحدّ الأدنى للتوافق المطلوب في النصّ الأسمى للبلاد.

ويتضمّن النص الجديد الكثير من التعديلات، في أبواب متعدّدة تتعلّق بالحقوق والحرّيات وتوازن السلطات ومسائل الهوية، بالإضافة إلى إقرار مواد جديدة كلّياً تتعلّق بدور الجيش خارج البلاد، وتنظيم العلاقة بين الرئيس والوزير الأول. إلّا أن هيكل النظام السياسي المعتمد لم يتغيّر؛ إذ تمّ الإبقاء على النظام شبه الرئاسي، مع تكريس صلاحيات واسعة لرئيس الجمهورية الذي يجسّد وحدة الأمة، وهو القائد الأعلى للقوات المسلحة ووزير الدفاع الوطني. ورُوعي، في النسخة النهائية، إبعاد بعض المواد الإشكالية التي سبق ورودها في المسودة، مثل منصب نائب الرئيس الذي قوبل بالكثير من الانتقادات، نظراً إلى أنه ورد في المسودة بطريقة التعيين وليس الانتخاب.

واللافت، أن هذا التعديل الدستوري صَنع مِن حوله خريطة سياسية جديدة، بعد التفكّك الذي طال المشهد السياسي العام في البلاد، إثر سقوط الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، وتصدّع كلّ الأحزاب التي كانت تسانده. وإلى حدّ الآن، تبدو كلّ الأحزاب التي ساندت العهدة الخامسة للرئيس السابق، متكتّلة في فريق الداعين إلى التصويت بـ”نعم” على الدستور. ومِن هؤلاء، “جبهة التحرير الوطني” التي تحاول العودة إلى الساحة، عبر بوّابة مساندة الدستور، بعدما أنهكتها الفضائح السياسية وتراجَع حضورها بشكل كبير. وفي صفّ الداعمين أيضاً، “حزب التجمّع الوطني الديموقراطي” الذي يقبع أمينه العام السابق، أحمد أويحيى، في السجن، وكذلك أحزاب “تجمّع أمل الجزائر” و”الحركة الشعبية الجزائرية” و”التحالف الوطني الجمهوري”. وخارج الموالين للرئيس السابق، يحظى مشروع الدستور بدعم أحزاب أخرى مثل “جبهة المستقبل”، مع احتمال قويّ لمساندته من “حركة البناء”.

وفي تصريحاته المؤيّدة لمشروع الدستور، يقول أبو الفضل بعجي، الأمين العام لـ”حزب جبهة التحرير الوطني” التي تمتلك الأغلبية في المجالس المنتخَبة، إن النص الجديد جاء بمحاور ومبادئ جديدة من شأنها إحداث “ثورة حقيقية” في مسار الإصلاح، وخاصة في مجال الحريات والحقوق والفصل بين السلطات. يذكر أيضاً أن التعديل الدستوري يحتوي على “معالم واضحة” للنهج السياسي الذي يقوم عليه الحكم في البلاد. أمّا الأمين العام لـ”التحالف الوطني الجمهوري”، بلقاسم ساحلي، فيعتقد أن المشروع حَقّق إلى حدّ مقبول التوازن بين السلطات في ظلّ النظام شبه الرئاسي، عبر تعزيز الرقابة البرلمانية على عمل الحكومة، وإخضاع بعض القرارات الرئاسية لموافقة البرلمان، وتوضيح المسألة بين حالتَي الأغلبية الرئاسية والبرلمانية.

لكن على الطرف الآخر، يرى الرافضون لمشروع الدستور عكس ذلك تماماً. وتَتشكّل هذه الفئة أساساً من الأحزاب الإسلامية التي تعتقد أن هناك خطراً على هوية البلاد وامتدادها العربي – الإسلامي من وراء اعتماد هذا الدستور، لكنها ترفع أيضاً تحفّظات في مسائل أخرى جوهرية تتعلّق بتوازن السلطات وصلاحيات رئيس الجمهورية ومواد الحقوق والحريات وغيرها. ومن أمثلة ذلك، رفض رئيس “جبهة العدالة والتنمية”، عبد الله جاب الله، ما ورد في المشروع من دسترة للغة الأمازيغية كلغة رسمية إلى جانب العربية، وإدراج ذلك في المواد الصمّاء غير القابلة للتعديل. ويعتقد أصحاب الرأي المتقدّم، وهم في العادة من تيارات إسلامية وقومية عربية، أن التأسيس للتعدّدية اللغوية في البلاد سيمهّد لتقسيمها مثلما حدث في دول أخرى مثل السودان مثلاً.

من جانبه، يرفع عبد الرزاق مقري، رئيس “حركة مجتمع السلم”، كبرى الحركات الإسلامية في البلاد، تحفّظات على بعض المواد التي تتحدّث عن حياد المسجد والمدرسة، ويعتبر ذلك مقدّمة لعلمنة المجتمع. لكن هذا الحزب، الذي كان يحلّ في العادة ثالثاً في الانتخابات التشريعية وراء حزبَي السلطة، يعتقد أيضاً أن صلاحيات رئيس الجمهورية في المشروع مضخّمة، وأن هناك لبساً في مسألة مَن يتولّى قيادة الجهاز التنفيذي. وفي هذه النقطة، يشير المشروع إلى حالتين تفرزهما الانتخابات التشريعية، هما الأغلبية البرلمانية والأغلبية الرئاسية، ويقول إن الرئيس يُعيّن رئيساً للحكومة في الحالة الأولى، ووزيراً أول في الحالة الثانية. لكن ما كانت تطالب به “حركة مجتمع السلم”، هو تعيين رئيس الحكومة مباشرة من الحزب الفائز بالانتخابات. وخارج دائرة المشاركين، سواء بقبول المشروع أو رفضه، يقف المقاطعون أو مَن يعتبرون أنفسهم غير معنيّين بهذا الاستفتاء، لأن مشروع الدستور لم يكن من البداية محلّ توافق، بحسبهم.

 وتتقدّم هذا الصفّ قوى ما يعرف بـ”البديل الديموقراطي”، وهو يضمّ تيارات أقصى اليسار واليسار المعتدل وشخصيات من العالم الحقوقي. وفي اعتقاد هؤلاء، أن الدستور ينبغي أن تتمّ كتابته عن طريق مسار تأسيسي، على أنهم يختلفون في ما بينهم. بين مَن يرى ضرورة انتخاب مجلس تأسيسي، ومَن يدعو إلى حوار قَبلي للاتفاق على ما يَرِد في الدستور وتسليم أمر الكتابة إلى لجنة مختصة. وعلى الرغم من رفضهم طريقة وضع الدستور، إلّا أن بعضهم، مثل “حزب العمال” الذي تتزعّمه لويزة حنون، توقّف مطوّلاً عند ما ورد في مضمون النص من إقرار لإمكانية إرسال قوات عسكرية إلى الخارج في حال موافقة ثلثَي البرلمان، واعتبر ذلك انحرافاً عن العقيدة العسكرية للبلاد، المبنيّة على عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى. وهناك ضمن دائرة المقاطعين، أيضاً، حراكيون غير متحزّبين، يرفضون بالمجمل ما بُني على مسار الانتخابات الرئاسية التي جاءت بعبد المجيد تبّون رئيساً، ويعتبرون المشاركة في الاستفتاء، سواء بالقبول أو الرفض، انخراطاً في استراتيجية السلطة.

وعلى مستوى مؤسّسات الدولة الكبرى، يبدو الانسجام كبيراً بين الرئاسة صاحبة المشروع والمؤسسة العسكرية؛ إذ اعتبرت مجلّة الجيش أن مشروع تعديل الدستور يحدّ من معاناة المواطن ويفتح أمامه باب الأمل. كما تذهب كلّ تصريحات رئيس الأركان، السعيد شنقريحة، إلى مباركة الاستفتاء والحرص على إنجاحه. وعلى رغم ما يظهر من معارضة، يعتقد كثير من المراقبين أن مشروع الدستور الذي يضع الرئيس تبّون رهانات كبيرة عليه، لن يجد صعوبة في عبور محطة الصندوق.

 

 

صحيفة الاخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى