انقلبت المفاهيم … فمات الضمير (جوالي الياس خوري)
جوالي الياس خوري
سبق وقلت أن الوضع في سوريا لم يعد مجرد اشكال سياسي .. بل تحول الى مشكلة انسانية خطيرة سببها.. العنف ،ومنهجية القتل والاقصاء غير المسبوقة.
فعندما يتحول الدفاع عن الوطن الى آلة قتل وتدمير ضد الآخر المختلف بالرأي أو بالتوجه أو بالفكر، وحصره بكونه عميل متآمر خائن ورديف للارهاب، متخذاً من مكافحة القاعدة والتطرف، التي استغلت حالة الفوضى والفلتان الأمني والفساد
المتواجدة على الأراضي السورية اليوم، لتدخل بحجة محاربة النظام الكافر، وإقامة دولة الخلافة الإسلامية، والتي سبق وهيأ لها النظام والعالم العربي، بتسويق إعلامي مدروس منذ بداية الأزمة باختزال الحراك الثوري السوري كونه مجرد عصابات
إرهابية مسلحة، هدفها تنفيذ مؤامرة على النظام المقاوم والممانع، بتمويل أعداء المقاومة والصمود والتصدي، فاتخذ النظام كل ما سبق ذريعة له لإعلان حربه ضد الارهاب ومن أجل تطهير الوطن بقتال ومحاربة العصابات العميلة التي تعيث فساداً في الأراضي السورية .. وتقلق راحة المواطن وأمن الوطن ..
لنخرج حينها من مفهوم حق الدولة بحماية الاستقرار والأمن والأمان، إلى مفهوم كسر العظم وحماية الوجود والبقاء على الكرسي، مهما كلف الثمن ومهما غلت الفاتورة لتكون موسومة بالدم وممهورة بأرقام مخيفة من الضحايا والدمار ..
فعندها تتيه المفاهيم السياسة المتداولة عالمياً وأخلاقياً من حيث حق الآخر في التعبير عن رأيه وحقه في الاختلاف والحياة .. الى حق الدولة الوحيد في الدفاع عن وجودها كسلطة ونظام .. بغض النظر عن أحقية هذا النظام بالوجود مستمداً شرعيته
من الشعب .. مكتفياً باستمدادها من بعض الدول العظمى التي تسانده لمجرد مصالح خاصة .. ومن مصلحة النظام نفسه بالاستمرار، متخذاً شرعيته من الكرسي الذي يجلس عليه .. بعيداً عن مصلحة الوطن أو الشعب الذي يدفع وحده ثمن القرار
الأحادي، باستمرار هذا النظام دون أي اعتبار لانتخابات حرة نزيهة، أو رغبة شعبية باستمراره ..
هذا الوضع العنفي، والضخ الاعلامي وغياب المحاسبات والعدالة والقانون، دفع باتجاه خلق هوة كبيرة بين الشعب .. لينقسم مفهوم الوطنية والانتماء بين شريحة تعتبر الوطن هو القائد وحاشيته وكل من يواليهم، والخونة كل من يعارضهم، وشريحة
أخرى تعتبر العكس تماما .. مما أدى الى انقلاب المفاهيم وتشويه القيم الأخلاقية والانسانية .. فالحرية أصبحت كلمة مستهجنة لا تعني إلا الارهاب والتطرف، والثورة هي جريمة نكراء، والديمقراطية هي مصطلح غوغائي،حتى السلمية أصبحت
بدعة رومانسية وتنظيرية في زمن لا صوت فيه يعلو على صوت الرصاص والمدفع .. لنصل الى ذروة الانحطاط الانساني والأخلاقي.
فمن يسوق أن كل من يختلف عنه لا تليق به الحرية وأنه لا يفهم وهو من الرعاع ولا يستحقها .. وكل من يبرر قتل السوري الآخر المختلف عنه بحجة أنه يقلق أمنه وراحته ولا يستحق الحياة وقتله واجب وطني .. وكل من يعتبر أن السلمية ورفض
العنف والقتل وتدمير الوطن هو ضعيف متخاذل ويعيق انتصار الوطن بتصفية الشعب الرعاع .. يضعني في موقف المتألم المصعوق ..
طبعا هناك مؤامرة على سوريا .. وهناك عناصر غريبة تستغل الفوضى وتسيء وتقتل وتدمر .. ولكن بالتأكيد كل هذا ما كان ليحصل لو كان هناك وعي سياسي واحترام لحق الآخر بالتعبير والاختلاف واستيعاب أن سوريا ليست ملكاً لأحد .. والأهم لو كان هناك ذرة محبة واحترام للآخر .. فالمؤامرة اليوم ينفذها الحقد والأنانية والطائفية .. ومن يحتكر الوطن .. !!
فعندما تتحول دعوات السلام ووقف الموت الى خيانة بحق الوطن .. تسقط الأخلاق والانسانية .. و يتحول الدم السوري الى قرابين على مذابح السلطة .. فيموت الضمير الوطني .. ويستباح الوطن.
