حتّى فترةٍ قريبةٍ كانَ المثقّفُ الحقيقيُّ، ومازالَ، هو الحاملَ للمنظومةِ القيميَّةِ والأخلاقيةِ كما أنّهُ مرآةُ الوعيِ والمتحكّمُ بمسيرةِ التثقيفِ والمعرفةِ والتوجيه المجتمعيّ، وهو الأقدرُ على صياغة الخطوطِ الرئيسةِ للهويَّةِ الجمعيَّةِ، لا بل إنَّ السلطاتِ الحاكمةَ كانَتْ تخشى من المثقَّفِ أكثرَ من خشيتِها من الجيوشِ المدجَّجةِ بالسِّلاح.
فالمثقفُ مدجَّجٌ بالأفكارِ والقيمِ التي من شأنِها أنْ تُعيدَ بناءَ المجتمعاتِ وصياغتَها وفقَ الحاجةِ الوطنيَّةِ والإنسانيَّةِ العُليا، لا بل إنَّ المثقفَ هو المحرِّضُ على المقاومةِ والنّضالِ والكفاحِ، وهو المناهضُ للاستعمارِ والتبعيَّةِ، الرافضُ للخنوعِ والاستعبادِ، والخالقُ لأساليبِ التّحرُّرِ والبناءِ الوطنيِّ، والحريص على تعزيز الديمقراطيةِ واحترامِ حقوقِ الإنسان.
ولهذا كانَ السَّاسةُ، في معظمِ دُولِ العالمِ، يخشونَ المثقَّفَ و”يتحسَّسُون مسدَّساتِهم” عندما يسمعونَ اسمَهُ، قبلَ أنْ يتخلَّى عددٌ من المثقَّفين عن مسؤولياتِهم، وتغيبُ عنهمُ المشاريعُ الفكريَّةُ والفلسفيَّةُ التي من شأنِها أن تنهضَ بالمجتمعِ بعد إحداث التغيير المطلوب فيه، الأمرُ الذي جعلَ مهمَّةَ هؤلاءِ المثقَّفين تقتصرُ على مراقبةِ أوضاعِ مجتمعِهم، دونَ بذلِ أيِّ جُهْدٍ يُذكَرُ في سبيلِ تغييرِهِ والارتقاءِ بهِ، الأمرُ الذي أثَّرَ سلباً على المجتمعِ وثقافتِهِ، وأدَّى إلى انغلاقٍ في الهويَّةِ الثقافيَّةِ، وتكلُّسٍ في مقوماتِها ومرتكزاتِها التي تمثِّلُ أساسَ الانتماءِ، والركيزةَ الأساسَ في تحصين الانتماء.
لقد أدَّتِ الانهزاميَّةُ التي يدّعي أصحابُها أنَّهم مثقَّفون إلى تقهقُرِ المثقَّفِ وتراجُعِهِ عن مسؤولياتِه الكبرى، كما أنَّ ابتعادَهُ عن قضايا أمَّتِهِ العادلةِ، والتي تمثِّلُ آمالَ الشَّعبِ وصولاً إلى الإصلاحِ المجتمعيِّ الشاملِ، أصابَهُ بانهزاميَّةٍ ثقافيَّةٍ وفكريَّةٍ أدخلَتْهُ في غياهبِ التّيهِ والحَيْرةِ، التي انعكسَتْ سلباً على الجماهير، فضلَّتْ طريقَها حتّى تحوَّلَتْ آمالُها إلى أحقادِ مَنْ خابَ رجاؤُهُ، بعد أنْ ضلَّ الطريقَ ودخلَ في سراديبِ الوهمِ والضَّياعِ.
في رواية “المسخ” لـ”فرانز كافكا” يستيقظ ” جريجور” من نومه ليكتشفَ أنّه تحوَّلَ إلى حشرةٍ كبيرةٍ بأرجلٍ كثيرةٍ، عطنةِ الرَّائحةِ، كريهة المُحيَّا، لا تستطيعُ التَّحرُّكَ، وكأنّ “كافكا” يحدِّثنا عن المثقَّفِ الانهزاميِّ المنقطعِ عن جذورِهِ، المقتلعِ من عالمه، حسبَ تعبيرِ “علي شريعتي”.
ومع هذا فإنَّ التضخُّمَ والنرجسيَّةَ يسيطران عليهِ ويتحكَّمان بحياتِهِ، الأمرُ الذي أحدثَ شرخاً عميقاً في العلاقة والثّقةِ بينَهُ وبينَ مجتمعِهِ، وهو ما أدَّى إلى انتفاءِ شرطَي الإنجازِ والحركةِ، والتفاعلِ عند هذا المثقّف، وبالتالي أصبحَ عاجزاً عن حَمْلِ الحقيقةِ في وَجْهِ القوّةِ، وتحوُّلَ من فاعلٍ إلى مفعولٍ به، وربَّما إلى متآمرٍ على قضيَّتِهِ ووطنِهِ، بعد أن سقطَ في الهاويةِ التي أنكرَها، ووقعَ في فخِّ الاغترابِ عن محيطِهِ ومجتمعِهِ.
آنَ الأوانُ ليستعيدَ المثقَّفُ دورَهُ السَّاميَ، مساهماً في كتابةِ التَّاريخِ وصناعته، والحكمَ عليهِ، كيفَ لا وهو مبدع الفكر وداعمُ النهوض، ورائدُ التَّقدُّمِ، وهو ما لا يتحقَّقُ إلا بتخلُّصِ المثقَّفِ من الأمراضِ التي يعاني منها، وبعودته إلى الإخلاصِ لقضيَّتِهِ والتماهي معها والتفاني في سبيلِ نُصرتِها والانتصارِ لها.
بوابة الشرق الأوسط الجديدة