باحث مصري يتتبع أثر فن الأراجوز على الإبداع الأدبي والفني
تأتي دراسة “الأراجوز ملهما” للدكتور نبيل بهجت انطلاقا من مشروع كبير أسس له من خلال عدد من الدراسات حيث سعى للتأصيل للنموذج كفكرة سواء من خلال دراسته بنماذج أمثال بديع خيري وبيرم التونسي وأبو السعود الابياري ويونس القاضي وغيرهم من النماذج الوطنية انطلاقا من أن الأراجوز أحد أهم أشكال النماذج في الوجدان الشعبي، لذا تأتي الدراسة التي تتناول اعمال سيد حجاب وفؤاد حداد وسمير عبدالباقي وغيرهم استمرارا للبحث خلف النموذج دراسة وتأصيلًا وتتبعا واحتفالا في ذات الوقت.
أكد بهجت في الدراسة التي صدرت عن مهرجان الأراجوز المصري في دورته الثانية الذي نظمته فرقة “ومضة” بالتعاون مع مكتبة الاسكندرية وبيت السناري، أن الأراجوز ظل ملهمًا لعدد من الفنانين والمبدعين في مختلف مجالات الإبداع، إذ جسد رمزًا للمقاومة الشعبية، ومثل حالة لتراكم الوعي جعلته حاضرًا لفظًا ودلالة في الوعي الجمعي رغم انحساره في بعض الفترات. وأن الدراسة تحاول تتبع أثر الأراجوز في بعض الأنواع الأدبية المختلفة كالمسرحية والرواية والقصة القصيرة والشعر لمعرفة مدى تأثيره علي تلك الأعمال وهل جاء تأثيره استجابة للصورة الذهنية العامة أم استجابة لعروضه التي قدمته شكلاً للرفض ونموذجًا لمواجهة السلطات الثلاث: السياسية والاجتماعية والدينية مقوِّمًا بعصاه ما اعوج منها، مدربًا جماهيره على رفض الهيمنة وكبت الحريات، وبمعنى أدق تبحث الدراسة حول ما إذا كانت الأعمال التي استلهمت الأراجوز قد شكلتها الصورة الذهنية العامة عنه، أم أنها تشكلت من خلال وعي ودراسة لفن الأراجوز ومعايشة له.
وتعتمد الدراسة على المنهج التحليلي المقارن، وذلك بتحليل النصوص ومقارنتها بنصوص الأراجوز للوقوف على مدى التأثر ومصدره هوية الشمروخ في مشروع “شمروخ الأراجوز” امتزجت بتاريخ الأوطان، حيث اتحد صوت الأراجوز مع ذات الشاعر ليصبح فاعلا في التأسيس للمبادئ الكبرى وأشار إلى أن الدراسة هي الثانية للباحث في محاولته لإلقاء الضوء على هذا الفن، وإعادته للحياة مرة أخرى، من خلال مشروعٍ إحياء الأراجوز بالتوثيق، والمحافظة على فنانيه ككنوز بشرية، وتدريب كوادر شابة على تقديمه، كذلك توظيفه داخل عدد من العروض.
تتناول الدراسة نماذج شعرية لكل من: فؤاد حداد، وسيد حجاب وسمير عبدالباقي، وكذلك رواية سفر الأراجوز، ومجموعة الأراجوز، وقصص أخرى لخالد الشلقاني، ومسرحيتي الأراجوز لعلي الراعي، وشغل أراجوزات لمحسن مصيلحي ورأى بهجت أن الأراجوز يُعد أحد أهم المسارح الشعبية التي تعتمد – بشكل أساسي- على دمى القفاز التي يحركها لاعب محترف يجلس خلف حاجز يسميه اللاعبون “البرفان” يساعده شخص آخر يطلق عليه “الملاغي” وتقع عليه مسئولية العزف علي “الترومبيطة” أو “الطبلة”، وترديد الأغاني التي يغنيها الأراجوز، وبالإضافة إلى ذلك فهو يشارك الفنان المؤدي الحوار، وخلق الكوميديا اللفظية والحركية، وتكرار بعض الكلمات التي تبدو غير واضحة بفعل “الأمانة”، وهى الآلة المسؤولة عن صوت الأراجوز الحاد، ويساهم الملاغي – أيضًا – في دمج استجابات الجمهور وتنظيمها بما يخدم أداء الفنان المؤدي، كما يلعب دورًا دراميًا في بناء الأحداث في العديد من النمر، حيث يتداخل مع عالم الدمى يشاطرها أحزانها وأفراحها، ويتآمر مع البعض ضد الآخر.
وأوضح أن اللاعبين يطلقون لفظ “النمرة” على عرض الأراجوز، وقد قامت بجمع ما تبقى في ذاكراتهم فلم تخرج عن 19 “نمرة”، تلتزم جميعها خطًا عامًا للأحداث عند جميع اللاعبين، يضيف معظمهم ارتجالاته الخاصة إليها، ولقد وصلت إلينا هذه “النمر” عبر النقل الشفاهي للأجيال المتعاقبة لتحمل جزءًا من ذاكرة المصريين وتشكل في مضمونها رمزًا للرفض والمقاومة. لقد واجه الأراجوز الكثير من الاحداث، وانتصر لإرادة التغيير ليفتح للجمهور أفقًا لتأمل واقعهم والتصدي للفاسدين، حيث قدم نمطًا للبطولة خلدته الذاكرة الشعبية، وأهلته أن يصبح ملهمًا للمبدعين في مختلف المجالات.
رأى بهجت أن كثرة الاعتماد على الأراجوز في الأعمال الأدبية والإبداعية مؤخرًا جاء أثرا لتجربة الإحياء التي قامت بها فرقة “ومضة” منذ عشرين عام تقريبا حيث شهد فن الأراجوز عملية إحياء في كافة المجالات بعد غياب أو تغييب. وقال “استلهم عدد من الشعراء الشباب الأراجوز في أعمالهم، فأصدر كل من محمد الغازي ديوان “أنا الأراجوز”، وإبراهيم الرفاعي ديوان “قلب الأراجوز”، وخالد عبدالباقي ديوان “سيرة الأراجوز”، وعماد الدين عبدالعليـم ديوان “الأراجوز”، وكما ترك الأراجوز آثاره في إبداعات عدد من الشعراء الكبار، فترك لنا فؤاد حداد ديوانين هما “يضرب على الوجيعة ويلاقي على الطبطاب.. رواية معتمدة من ديوان الأراجوز الأول”، وديوان “لست الأراجوز”. وقدم لنا سمير عبدالباقي نشرته الشعرية “شمروخ الأراجوز”، وكتب سيد حجاب قصيدة الأراجوز التي غناها الفنان الكبير عمر الشريف في فيلم “الأراجوز”، كما قدم أغاني هذا الفيلم. وفي مجال الرواية أصدر أحمد سمير سعد رواية “سفر الأراجوز”، وأصدر خالد الشلقاني مجموعته “الأراجوز” وهما محل تحليل الدراسة.
وأضاف “في مجال المسرح ترك الأراجوز آثارًا واضحة على المسرح منذ بداياته، وظهر ذلك واضحًا في أعمال يعقوب صنوع، وعلي الكسار، ونجيب الريحاني، وأبو السعود الإبياري، وكثر الاعتماد عليه في الفترة الأخيرة تحديدًا حيث قدم أكثر من عرض يحمل اسم الأراجوز منها: دنيا أراجوزات، وضحكة الأراجوز، وحواديت الأراجوز، ودنيا الأحلام، ويوميات الأراجوز.
وقال بهجت: سعى فؤاد حداد من خلال ديوانه “يضرب على الوجيعة….” لإلقاء الضوء على الأراجوز، وعلى عدد من الفنون الشعبية الأخرى، معرضاً بالنخب التي تستبعد تلك الفنون من حيز الفن.
وأكد حداد في أكثر من موضع على أن فن الأراجوز هو مسرح الشعب، وحرص على أن يضمن قصائده معلومات عن طبيعة الدمى، وأماكن تقديم العروض والطريقة التي يقدم بها الفنان عرضه، كذلك أسلوب تحريك الدمى، واعتمد على عدد من المصطلحات التي يستخدمها لاعبو الأراجوز حتى الآن، كما وقف على عدد من الموضوعات التي تناولها الأراجوز في مواجهة الآخر النخبوي والسلطة السياسية داخل المجتمع، واستحضر عدداً من نمر الأراجوز داخل قصائده كالأراجوز ومراته والست اللي بتولد والشحاذ، كما كشفت القصائد إلمامه بتفاصيل هذا الفن، وجعل من صوت الأراجوز الصارخ وعصاه مركزًا للدلالة وحلاً لمواجهة الفساد والاستبداد لدى السلطة بمختلف أنواعها داخل المجتمع، لقد جسد الأراجوز لديه رمزًا للمقاومة والوعي، تشكلت في ثنائية القول والفعل، واتحد صوت الشاعر لدى حداد وسمير عبدالباقي وسيد حجاب مع صوت الأراجوز، ليحمل رؤيتهم وذواتهم الشعري، حيث تتجلى الذات الشعرية من خلال استخدام ضمير المخاطب “أنا” ليصبح صوت الأراجوز هو صوت الشاعر نفسه.
وأوضح أن حضور فكرة العدالة لدى الشعراء الثلاثة مثلت هدفاً للأراجوز وحلما للشعراء أنفسهم الذين أجمعوا على ضرورة حمايتها بالعصا ليصبح الأراجوز لديهم رمزًا لتحقيق العدالة، وهو ما يطرحه سمير عبدالباقي في شمروح الأراجوز، وسيد حجاب في الأراجوز، وبالرغم من انحياز سمير عبدالباقي في معظم قصائده للصورة الإيجابية للأراجوز المستوحاة من عروضه المختلفة، والتي أكد عليها فؤاد حداد وسيد حجاب، إلا أن قصيدة “غتيت.. عامل أراجوز” كشفت عن تأثره بالصورة السلبية المتداولة في الذهنية العامة عنه.
وحول حضور الأراجوز في بعض الأعمال السردية الحديثة، قال بهجت “لعبت النبوءة دورًا في تشكيل العملين محل الدراسة إلا أنهما وقفا عند حدود الشكل العام للأراجوز، وأكد لنا ذلك الوصف الذي أثبته في عرض الأراجوز الذي كشف عن عدم إلمام المؤلفين أحمد سمير وخالد الشلقاني بفن الأراجوز وعدم معايشتهما له، فلم يقدم أحمد سمير المعلومات الصحيحة عن الأراجوز ومكوناته وطريقة نطقه، واكتفى خالد الشلقاني بالوقوف على الأراجوز كرمز لمقاومة السلطة.
وتابع بهجت كاشفا عما تركه الأراجوز من أثر واضح على المسرح العربي الحديث منذ بدايته، قال ترك الأراجوز آثارًا واضحة في المسرح العربي الحديث، حيث ظهرت آثاره في مسرح يعقوب صنوع، ومسرح علي الكسار، ونجيب الريحاني، وأبو السعود الإبياري.
ومن الملاحظ كثرة استلهامه في الفترة الأخيرة سواء كأحد عناصر العمل المسرحي، مثلما فعل الكاتب السيد محمد علي في مسرحية “الشطار” التي أخرجها محمود الألفي على مسرح الغد عام 2010، أو الاعتماد عليه كمحور للعمل الفني كما في مسرحية “دنيا أراجوزات” تأليف محمود الطوخي وإخراج جلال الشرقاوي، والتي قدمها على مسرح الفن 2010، وكذلك مسرحية “ضحكة الأراجوز” تأليف سليم كتشنر وإخراج محمد سليم، والتي قدمها مسرح الغد 2011، ومسرحية “حواديت الأراجوز” تأليف رندا إبراهيم إخراج محسن العزب التي قدمها مسرح الطفل عام 2011، ومسرحية أراجوز دنيا الأحلام تأليف إيهاب مبروك إخراج حسام عبدالعزيز والتي قدمتها فرقة الإسكندرية المسرحية عام 2015، وكذلك مسرحية “يوميات الأراجوز” التي قدمتها رابطة خريجي الجامعة الأميركية عام 2017، تأليف نرمين سعد، وإخراج علاء شلبي، كما نشرت مجلة مسرحنا في عددها الصادر في 2 نوفمبر/تشرين الثاني 2014 مسرحية “الأراجوز الكسلان” تأليف السيد فهيم، كذلك كتب د.علي الراعي مسرحية الأراجوز، والتي أخرجها جلال الشرقاوي عام 1970، وكتب محسن مصيلحي مسرحية “شغل أراجوزات” التي أخرجها أحمد إسماعيل لمسرح الغد عام 1993″.
وقف بهجت في الدراسة على مسرحيتي “الأراجوز” لعلي الراعي” و”شغل أراجوزات” لمحسن مصيلحي، فأكد أن كل منهما أسس تجربته على إيمانه بما يمتلكه الأراجوز من مقومات يمكن من خلالها إعادته واستغلاله.
وأضاف “ربط علي الراعي الأراجوز بالشعب بينما قدمه محسن مصيلحي كنموذج للمخلص الذي لحقت به تحولات وتشوهات الواقع وانطلق كل منهما من خبرة واسعة بفن الأراجوز ظهرت بوضوح في توظيفهما له. وتركت نمر الأراجوز أثرها على الحبكة والصراع لديهما حيث تأثر علي الراعي بعدد من النمر التي شاهدها وأثبتها في كتابه “تاريخ الكوميديا من خيال الظل إلى نجيب الريحاني”، والتي تتناول زواج الأراجوز وقصة زوجته مع العفريت، وميلاد ابنه، ومشكلاته الزوجية. ومواقفه مع الشحاذ والفقي والبواب وهي مواقف احتفظت بها نمر جواز بالنبوت والعفريت والست إللي بتولد والشحات والفتوة الغلباوي والبربري مع وجود اختلافات في بعض النمر الآن عما قدمه علي الراعي.
ورأى بهجت أن مصيلحي استفاد من عدد من النمر وهي: الست إللي بتولد، وزواج بالنبوت والفتوة الغلباوي في بناء فصله الأول كذلك اعتمد الراعي على الضرب لإنهاء الصراع لصالح الأراجوز، وكذلك اعتمد مصيلحي عليه في نهاية عرضه لتأتي النهاية فيه لصالح الشخصيات السلبية على عكس عروض الأراجوز. واستدعى كل منهما عددًا من شخصيات الأراجوز، حيث اعتمد علي الراعي على الأراجوز، والملاغي، وزوجة الأراجوز، والداية، والشحات، والعفريت، والبواب، في حين اكتفى مصيلحي بالاعتماد على شخصيتي الخواجة والأراجوز.
وحول تجربة الشاعر سمير عبدالباقي الذي صدر له دورية شعرية تحمل اسمه “شمروخ الأراجوز“، وأصدر عددا من الدواوين تحمل اسمه أيضا موظفا شمروخه الذي هو أطول من عصا الأراجوز لمواجهة الفساد وإيقاظ الوعي “لازم أشيل تحت بطاطي أزجالي زقلة.. وفرقلة، أدق بيها على المخموخ.. يمكن يفوق اللي اللي.. وينضفوا الثوب الغالي..اللي اتملا على بلدي شروخ”. فأكد بهجت على أن هوية الشمروخ في مشروع شمروخ الأراجوز امتزجت بتاريخ الأوطان، حيث اتحد صوت الأراجوز مع ذات الشاعر ليصبح فاعلا في التأسيس للمبادئ الكبرى التي تستقيم معها حياة الإنسان. وكثر ظهور ضمير المتكلم أنا في مستهل عدد من القصائد “أنا مش من شلة ولا فشلة.. أنا الأراجوز وأدباتي/ أنا الأراجوز النوزي”، ليصبح صوت الأراجوز صوتا للشاعر يحمل رؤيته في الدفاع عن الوطن لتحقيق العدالة التي جعلها الشاعر هدفه المعلن داخل قصائده المتعددة، ويصبح الشمروخ وسيلة لتحقيق هذا الهدف في مواجهة اللصوص والفساد وأشكال التلون السياسي على مر التاريخ، ويصبح استعادة الوعي أحد أهم غايات الأراجوز الكبرى.
ميدل إيست أون لاين