بارعة الأحمر تروي قصة «تانغو في بيروت»
حين تتكدّس الأوراق على مكتب صحافيّة، ويتراكم الزّمان بين السّطور، كقصص الحب المفقودة بين حرب وحرف، يأتي ذاك اليوم على رؤوس أنامل المعتقدات والسّياسات والانتماءات، مختبئاً تحت عباءة غريب وحيد يقتلع الأمس من صمتٍ عنيد، يؤجّجُ الأحداث الغافية في ذاكرة الاقتراف
يقلّب صفحات القلب كما النّسمات وهي «تمحو خطواتها على شواطئ العالم» بحثًا عن مسار أو طريق آخر، بلا ثقوب ولا حفر، بلا أدنى ثغرةٍ على وجه الحبّ، بعيداً عن أسوار المجتمعات العالية، والسّجون البشريّة، و «الحيطان» الفاصلة بين الحريّة والإنسان، والحقيقة والافتراض، فيه الحلم يتعدّى السّرير إلى الوحدة الجليّة، كحقيقةٍ ما تعبت من الرّقص والجري وراء تمرّد امرأة بين صفحات هذا الكتاب.
كي لا أخالف قوانين الّلعبة وأدّعي اختلاف الرأي وأعاكس مبادئ الحبر وضميرٍ أؤمن به أكثر ممّا أؤمن بصدقي، أطلقت له عنان الوضوح والموقف الحرّ قبل أي شيء، قلمي! أقول برأيٍ وانطباع متأثِّرٍ بهذا الكَمّ من الصّراخ، أني قرأتُ وثائق قيّمة ومؤلمة في آن، شتات حرفٍ جمعه دهاء قلم محترف بفصول تعاقبت فيها الخيبات، جلتُ متأثّرة بتنوّع كبير من المواضيع ربطها النّثرُ بحكمة، فقلم الصّحافيّ يتميّزُ بالأسلوب والنّمط، بالأداء والتّعبير ويختلف عن قلم الأديب والرّوائي والشّاعر.
يبقى الحسّ الشعريّ خاصّاً بفطرة المجنون في الشّاعر، الذي يهرق روحه على الورق ويأبى تصنيفه…
والرّوائي وفق التّعريف الكلاسيكي للرواية، يتسرّب إلى أنفاسك وأنت تفتح كتابه، يشدك بخياله من الصفحة الأولى، يتلفُ عينيك ويشلّ حراكك قبل أن تفكَّ لغز روايته المنسابة في شخصيّات عدّة وموضوع واحد.
أما الصحافي المحترف هو الذي يُحيي الحدث بأسلوب علميّ مقتضب يوصل رسالة هائلة بإيجاز بدهاء العارف كيف يصل إلى عقلك أوّلا وفكرك ومن ثمّ إلى قلبك.«تانغو في بيروت» رقصة ثائرة، لملمت أوراق خريفها المبعثرة، لتنبعثَ في تمرّدِ الوِحدة على واقعٍ يكتظّ ويزدحم بعياء السّياسات الغامضة والعلاقات المشبوهة، بالشّهرة الفارغة والاحتلال المتمادي، باغتصاب الأرض وردع الحريّات، بالخيانات المتعدّدة على وسائد المصالح، بأسلوب سرديّ متكامل يروي بطريقة حديثة، بالفوريّة والمباشرة حالة شعبٍ بل أمّةٍ مزّقتها الصّراعات والحروب.
كما أنّ «تانغو في بيروت» تعدّى المكان والزّمان، محافظًا على هويّة الحدث الّلبناني، ليغدو الزّمان العالمي، وكلّ مكان وعاصمة، مسرحاً لرقصة التانغو وارتكاباً ما، حريصاً على ما هو الأهمّ، إيصال الفكرة والرّسالة.
بالإضافة الى شخصيّة « موناليزا» ورقصها المعبّر عن ذاتها، وما كثرة الخطوات حول « الأنا» إلاّ لتضفي طابع السّيرة الذّاتيّة المعاصرة على النّص، فالتّعبير عن الشّخصيّة بمبالغة وشفافيّة الذي اعتُمِدَ لنقل صورة العالم الحديث العابرة، من خلال امرأة متحرّرة من قيود واقعها، العائدة بين صفحة وصفحة إلى التّقليد والأرض، تبحثُ عن وجه الحقيقة، عن حبٍّ أكبر من العالم، وأصدق من الشّعاع، سكبت روحها في ألف قصيدة وبوح وسؤال… حمل ثقل القضيّة إلى رشاقة الحرف، في رقصةٍ ذاتيّة فائقة ومعاصرة.
أخيراً لا يسعني إلاّ القول إن الكتاب رقصة تراوحت بين الشّعر والقصّة والخيال، من مكان إلى مكان نقلت وثائقها، وصورها، اعتمدت الحداثة والعالميّة في السّرد.
نقلت رأي الصّحافيّة «بنت النّهار» بجرأة الشّمس الثّاقبة، لذعتْ وأحرقت جلد الخبث والمكر، تلعثمت بكتابة قلبها، برعت بانتمائها إلى الأرض وما الأمّ إلاّ الأرض الثانية، منها تنبض الوطنـــيّة وينبلج الصّدق، حملت قضيّتها في كتابها، خلعت فستانها الأسود.. لتلبس أوراقها لون الحداثة والتميّز.
صحيفة الحياة