بانتظار الثورة الثانية في مصر (محمد أبو الفضل)
محمد أبو الفضل
الأزمة المتفاقمة التي تعيشها مصر الآن على المستويات، السياسية والاقتصادية والأمنية، دفعت كثير من القوى والأحزاب للمطالبة بثورة ثانية، كوسيلة للخروج من الحالة الراهنة وفض الاشتباك الحاصل في ميادين مختلفة. والغريب أن الدعوة لم تأت فقط من قبل المعارضة، التي لديها تحفظات جوهرية على الأداء العام للرئيس محمد مرسي وجماعة الاخوان المسلمين الممسكة بزمام السلطة رسميا، بل جاءت أيضا من جانب الرئيس نفسه، وهو ما أثار علامات استفهام كبيرة وفتح الباب لاجتهادات متنوعة. فإذا كان مفهوما أن تدعو المعارضة لثورة ثانية لتعديل الدفة التي مالت بقسوة لصالح جماعة على حساب بقية المصريين، فإن المسألة تبدو غامضة عندما يدعو من بيده السلطة للثورة، وعلى مَنْ؟
القصة تفجرت في مصر على نطاق واسع، عندما أشار الرئيس مرسي أثناء زيارته للسودان أخيرا، إلى أنه "سيدعو المصريين لثورة مرة أخرى إذا لزم الأمر"، بعدها بدأت تتدفق سيول من الأسئلة، منها الجاد ومنها الساخر ومنها الناقم. فهذه ربما تكون من المرات النادرة التي يدعو فيها رئيس الجمهورية إلى ثورة، باستثناء الدعوات التي كان يطلقها العقيد الليبي الراحل معمر القذافي للتدليل على اقترابه من الشارع واحساسه بنبض الجماهير، ومع ذلك فشلت كل محاولاته في السيطرة على الشارع والاقتراب من المواطنين، حيث قامت فعلا ثورة على حكمه وأسقطته بصورة مأساوية. لا شك أن المقارنة غير دقيقة في هذا المقام، لكن المقصود أن هذا النوع من التصرفات غير منطقي ومرفوض، بل يحمل في داخله اعتراف صريح بالفشل، لا يتناسب مع حجم الأمل والتفاؤل والطموح، وهي مفردات اعتاد الرئيس مرسي أن يبثها، من وقت لآخر، في نفوس البسطاء من المواطنين.
الحاصل أن حكاية الثورة الثانية أصبحت مضغة في قاموس المصريين، مثل حصان طروادة عند الاغريق، الذي استخدم كخدعة لتحقيق مآرب أخرى. فالمعارضة تدعو منذ فترة إلى ثورة ثانية (مع ملاحظة أن هناك اختلافا حول تقييم ما حدث في يناير 2011، وهل هو ثورة فعلا أم انتفاضة شعبية؟)، وظهرت علامات الدعوة ابان حكم المجلس العسكري، ثم تجددت بكثافة بعد صعود الاخوان ووصولهم للسلطة وحيادهم عن الثورة، حيث تيقنت غالبية قوى المعارضة أن سياسات الجماعة انحرفت عن الأهداف الأساسية لروح ثورة يناير، لصالح تحقيق أغراض تتعلق بحسابات الاخوان السياسية في المرحلة الحالية، لذلك تبنت قطاعات كبيرة في صفوف المعارضة هذه الدعوة، ووجدتها طريقة مريحة لانقاذها من المأزق الذي تعاني منه. فهي لم تستطع منافسة الاخوان في الانتخابات، والفوز بمقاعد تتناسب مع أمنياتها وأحلامها، وفشلت في حض الجماعة للتوافق والالتفاف حول أجندة تحظى باجماع وطني واضح، كما أنها لا تملك من الوسائل والأدوات العملية للضغط، الذي يمكن أن يدفع الاخوان لتغيير مسار التوجهات الراهنة، والتي يمشي معظمها في طريق يلقي احتجاجا ورفضا عارما، على اعتبار أن نتائجه متوقع أن تكون سلبية، بما رخى بظلاله على نسيج الدولة المصرية.
الشاهد أن مطلب الثورة الثانية في صفوف المعارضة، ينطوي على أهداف مختلفة، ويأخذ صورا وأشكالا مختلفة أيضا. فهناك من يريدها للتخلص نهائيا من حكم الاخوان، ومن يتبناها كمدخل لتصحيح الأخطاء، ومن يداري بها عجزه، وهناك من يعتقد أنها يمكن أن تعيد رموز الحكم السابق. وهكذا، ووسط الاختلاف الظاهر في الأهداف كان من السهولة أن تتعثر الدعوة ويتناثر فوقها التشويش، ويستغلها الرئيس وجماعته كمطية للتشكيك في أغراض الداعين إليها، وشن حملة لتشويه من يؤيدونها. أما صورها، فقد رأت فئة في المعارضة أن الانتفاضة الشعبية هي الوسيلة الأفضل لاجبار الاخوان على الرحيل، وأن الجماعة فقيرة شعبيا، ودحض الأفكار السائدة بشأن ما يتردد حول رسوخ جذورها في الشارع، بدليل فوزها في الانتخابات بنسب مريحة سياسيا. ودعت فئة أخرى، إلى ثورة للجوعى والفقراء تقضي على أصحاب كل الأفكار "الرجعية- الاسلامية" وتعيد الدولة إلى سلطة حكم القوى "المدنية". وهناك فئة ثالثة، رأت في استدعاء الجيش مرة أخرى هو طوق النجاة للثورة الثانية وزحزحة الأرض من تحت أقدام الاخوان.
بالطبع لكل فئة مبررات وتفسيرات دعتها لبلورة هدفها المعلن، واختيار الشكل الملائم لتحقيقه، لكن في جميع الحالات يوجد عدم رضاء عن الاجراءات التي اتخذت والمسارات التي تسير فيها البلاد، واحباط مما جرى في كثير من المجالات وما ترتب من تداعيات حتى الآن، فضلا عن وجود تشابك وصل إلى حد الغموض في ما هو معلن أو خفي من أهداف لدي كل قطاع.
قد يكون هذا الالتباس من أهم الأسباب التي لم تجعل للدعوة أصداء قوية في الحواري والشوارع. وحتى المظاهرات والاحتجاجات التي خرجت، عن قصد أو عفوية، لم تصل بعد إلى مرتبة الهبة أو الانتفاضة، أو حتى بكثافة توحي بانتظار قطار الثورة الثانية. ربما تكون الاعتصامات والاضرابات التي تحدث في أماكن متفرقة تعطي انطباعا بالاحتقان، لكن لا تزال العلامات المؤكدة لفعل الثورة غير مقنعة، لأن هامشا كبيرا من دوافعها مبهم، ومكوناتها لم تصل إلى كثير من المصريين، إما بسبب وجود بقايا أمل في الإصلاح تحت حكم الإخوان، أو حالة اللامبالاة التي ضربت جزءا منهم، عقب صدمتهم في نتائج الثورة الأولى، أو اخفاق قوى المعارضة في اقناع الجماهير بالنزول مرة أخرى بأعداد غفيرة، وربما يكون قصر النفس المعروف عند المصريين سببا مهما لتفسير عدم التجاوب مع الدعوة لثورة ثانية.
ولأن المسألة بدأت تحتل حيزا متقدما في أجندة المعارضة، والرئاسة والحكومة والجماعة فشلوا في القيام بخطوات تعطي ايحاءات بالاستقرار القادم، وجد الرئيس مرسي ضالته في الاشارة إلى ثورة ثانية، يتمكن من خلالها تحقيق جملة من الأهداف، أبرزها، محاولة قطع الطريق على دعوة المعارضة وتفريغها من مضمونها، عبر تحويل فكرة الثورة إلى أداة للمزايدة السياسية والتجاذبات الحزبية، بما يدفع مجموعات من الجماهير للانصراف عن دعوة نبيلة قابلة لأن تدخل نفقا مخيفا، وقد تكون مدخلا لحرب أهلية غير مرغوب فيها شعبيا. كما أن الاشارة إليها من خلال قناة الرئيس، تعني التمهيد لقرارات استثنائية، وعدم استبعاد الاقدام على اجراءات حازمة (ثورية أو قريبة منها) لوقف التدهور ومنع الانزلاق إلى حافة الهاوية، وكلها يؤكد أن الثورة الثانية سوف تكون مغايرة للأولى، اتساقا مع نظرية هيراقليطس التي تقول أن الانسان لا ينزل النهر الواحد مرتين، وربما قصد الرئيس من اشارته أيضا، نفي ما يتردد حول عدم مشاركة الاخوان في الأيام الأولى للثورة، وأن الجميع شارك فيها، لذلك عندما يدعو لثورة ثانية فهو يقصد استكمال مسيرة الثورة الأولى، إذن كيف لجماعة تتبنى فكرا ثوريا يتم تجريدها من هذا الشرف؟
أعتقد أن توقع المصريين لثورة ثانية عملية بحاجة إلى اعادة نظر، ففي ظل الأجواء الحالية الملبدة بالغيوم، والتي وصلت فيها الأمور إلى درجة خطيرة، سيكون من الصعوبة انتظار ثورة ثانية لتصحيح الأوضاع، بل أخشى أن نكون على موعد مع حالة نادرة من الاقتتال الأهلي، لأن الجهات التي تمسك مفاتيح ومفاصل رئيسية تهتم بالاستحواذ والسيطرة، بما يفضي لما هو أسوأ، في حين أن الثورة عملية تغيير واقع للأفضل.