بانتظار الشمس
أكتب هذه الكلمات مع الوهج الأول لشمس ما تزال نائية ، و قد تملكتني فكرة واحدة أنني لن أعيش سوى هذا العام ، وربما بعض العام المقبل تماما كما عاشت أمي و ماتت في الثانية و التسعين تقريبا ، وأنا كنت البكر بين أولادها وأكثرهم شبهاً بها في معظم مزاياها النفسية و الخلقية ….
وها أنذا مازلت حياً بإنتظار موعدي مع الموت في العمر ذاته الذي عاشته أمي …حسنا … وماذا بعد كل هذه الحياة المريرة الحافلة بالأوجاع والكوارث الوطنية يقول شيطان شعري أحيانا
كنت أسرجت للرحيل حصاني من زمان فمالذي أبقاني ؟ّ!
الثمانون جزتها، و زهير بات خلفي فمن رآه رآني
فأنا أجدد بالسأم من زهير بن أبي سلمى و قد تجاوزت التسعين بأربعة أشهر، وأكاد أثق كل الثقة أن بلادي لن ترتاح من العنف و الموت مهما تشدقت الأخبار المفبركة عن النصر و السلام إذ لا سلام و لا نصر حقيقي على الإرهاب و التخلف و الرعب….
ها أنذا أستعرض حياتي و أنا أراقب الأفق الشرقي يتوهج شيئاً فشيئاً بمقدم الشمس النوراني الذي يهبنا الحياة ثم لا نعرف كيف نقدر عطاياه بأن نفهم أخيراً أنه آن حقاً لسكان هذه الارض التي نسميها سوريا أو العراق أو لبنان أو…أو…أن يستردوا وعيهم بماضيهم الحضاري العريق وأن يشكروا الشمس على بزوغها و نورها و أن يطردوا الدخلاء على أرضهم و ينعموا أخيرا بالأخوة الصادقة و بالسلام المديد و بالعمل الحقيقي على الإنتماء فعلاً و قولاً إلى عالم حر عادل متقدم !….
وهكذا كانت تجرفني الأماني والأفكار وأنا في وقفتي على شرفة داري المطلة على الشرق المتوهج بالنور المتسلل من خلال الغيوم المتراكمة …
ها أنذا أتذكر الشريط الطويل لحياتي المديدة الحافلة مع الحضور الفرنسي الذي على سواءته علمنا أساليب الإنتخابات البرلمانية والحكم الديمقراطي بالرغم من حضور الإنتداب الأجنبي و ماذا حدث بالفعل بعد خروج الفرنسيين …هل عرفنا الإستقلال حقاً أكثر من سنوات معدودات غلبتها الإنقلابات العسكرية وغياب نظام الأحزاب الوطنية والإنتخابات البرلمانية الحرة و نظام الحريات العامة تحت كوابيس الحكم العسكري الإستبدادي ؟!؟!
تذكرت حياتي كيف أتقنت اللغة الفرنسية كأهلها حتى و أنا بعد في العاشرة من عمري ، من دون أن أجهل لغتي الوطنية العربية وأمارسها حديثاً وكتابة ونثراً و شعراً وأنا بعد في سن المراهقة الأولى…ومظاهرات الطلبة في المرحلة الثانوية بل والجامعية و كيف كان شكري القوتلي مثلاً رئيس الجمهورية يستقبل الطلاب المتظاهرين في دار الرئاسة في حي المهاجرين و هو يبتسم لنا نحن اللجنة الطلابية المنبثقة عن الطلاب المتظاهرين كلهم …
يا أولادي … ماذا تريدون حقا ؟…و أنا أنفذه لكم فورا حسب مقدرتنا الإقتصادية … هكذا خاطبنا شكري القوتلي ذات يوم عاصف بالمظاهرات و كنت واحداً من اللجنة الطلابية التي دعاها الرئيس لمناقشة الموضوع …أنا لا أخترع هذا اللقاء الديمقراطي الذي حصل فعلاً و كنت واحداً من شهوده كطالب نظامي …
ماذا ينتظرنا الآن بعد ثمان سنوات من القصف والصمت والموت وتدخل الغرباء والأجانب و العربان ….ماذا حدث لسوريا ؟! بل للوطن العربي الأكبر في كل أقطاره تقريباً؟!
ها أنذا أستعرض حياتي المديدة و قد عرفت الاعتقال ظلماً و النفي عن الوطن قسراً والمعاقبة على الرأي المعارض طوال حياتي المديدة …ما العمل ؟ هل نخرس و نصفق للحاكم المستبد فيما تبقى من حياتنا أم نموت قهراً ؟…أما من أمل صغير بالخلاص كهذه الومضة من النور المتوهجة من خلال الغيوم وأنا ما أزال أنتظر الشمس التي ترفض أن تشرق كاملة….