بانتظار «غودو»!

أعلنت واشنطن أنها لم تحسم مسألة الموافقة على عرض مشروع قرار على التصويت في مجلس الأمن، ولكنها تشجع أوروبا على تقديم مشروع قرار يقطع الطريق على مشروع القرار العربي، من دون أن تتعهد بالموافقة عليه، حتى لو جاء كحلٍ وسط، واستبدَلَ عبارة «تحديد سقف زمني لإنهاء الاحتلال» بوضع «سقف زمني لإنهاء المفاوضات».

يعني ذلك أن إدارة أوباما تريد أن تهبط بسقف الموقف الدولي دون القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، من دون أن تلتزم حتى التصويت إلى جانب القرار، حتى تضمن أن يأتي القرار بأسوأ صورة ولا يغضب إسرائيل.

طبعًا، كل ذلك يدور من دون أي حديث عن قرار ملزم، ما لا يجعل صدوره شرًا مستطيرًا كما يحاول نتنياهو أن يصور. إنما الأمر في جوهره محاولة لإنقاذ إسرائيل من نفسها ومن تطرفها، ومن خروج الفلسطينيين من «اتفاق أوسلو».

تريد أميركا أن تضمن العودة إلى المفاوضات وأن تتجنب استخدام «الفيتو» ضد مشروع القرار العربي، في وقت تحارب فيه الاٍرهاب تحت عنوان «داعش»، ما سيؤدي إلى إحراج حلفائها العرب، وإضعاف الرئيس أبو مازن الذي يعيش لحظة صعبة جدًا، فإذا لم يحصل على الأصوات التسعة المطلوبة لعرضه للتصويت أو في حال حصل عليها واستخدمت واشنطن «الفيتو»، قد يضطر إلى المضي في تنفيذ ما تعهد به سابقًا، وهذا إن حصل فعلًا يعني تغييرًا كبيرًا في قواعد اللعبة التي حكمت الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي منذ توقيع «أوسلو» حتى الآن، وسيؤدي ذلك إلى مجابهة فلسطينية – إسرائيلية، وربما عقوبات أميركية في وضع عربي وفلسطيني غير مناسب.

ما يساعد على حيرة أبو مازن أن هناك واقعًا كاملًا نشأ بعد أكثر من عشرين عامًا على «أوسلو»، من اتفاقات والتزامات ومصالح كبرى، من الصعب التخلص منها. كما أن الرئيس وضع كل بيضه في السلة الأميركية ـ الإسرائيلية، ولم يستعدّ لأي خيارات أخرى. يضاف إلى ذلك تأثير الانقسام في ظل تناحر المحاور العربية والإقليمية، وقرب انعقاد انتخابات إسرائيلية (في شهر آذار المقبل)، حيث ثمة احتمال، ولو ضئيل، بأن تحمل حكومة إسرائيلية جديدة بقيادة هرتسوغ ـ ليفني (حزب «العمل» و»كاديما»)، تسمح إذا تشكلت بخوض مفاوضات جديدة لها فرصة، ولو قليلة، في النجاح.

فأبو مازن لا يزال يؤمن مخطئًا بإمكانية التوصل إلى تسوية إذا توفرت الحكومة الإسرائيلية المطلوبة أو إذا مارست الإدارة الأميركية وأوروبا الضغط اللازم على إسرائيل. وعلى هذا الأساس، فهو يؤمن بعناد بخيار المفاوضات، وبأن لا بديل عن المفاوضات عندما تَفْشل إلا المزيد منها. وعندما يتحدث أو يهدد بخيارات أخرى، إنما يفعل ذلك لأنه مضطر بحكم المنافسة التي تمثلها «حماس» وغيرها من الفصائل والقطاعات المعارضة لنهج المفاوضات، ولأن الشعب لا يزال حيّا ولا يقبل بتقديم التنازلات المطلوبة. لذلك، فإنه يفعل ذلك من قبيل التكتيك والتهديد اللفظي. ولذلك، لم يثمر هذا التهديد سوى الحصول على بعض الترضيات والمساعدات.

ما يحاول كيري فعله في اجتماعيه المقبِلَين: الأول مع نتنياهو في روما، والثاني مع وفد من وزراء الخارجية العرب بوجود وزراء خارجية أوروبيين في لندن، هو إيجاد مخرج يسمح لأبو مازن بوقف توجهه لمجلس الأمن، وبعد ذلك إلى محكمة الجنايات والخطوات التي سبق أن هدد بها، وباستئناف المفاوضات لأنه لا يستطيع أن يفعل ذلك من دون ترضية. والحوار المكثف الآن هو حول مضمون وسقف هذه الترضية، وبصورة لا تضر باحتمالات فوز اليمين برئاسة نتنياهو أو غيره في الانتخابات القادمة.

ما يدفع أبو مازن إلى الاستمرار في هذه السياسة هي قناعته بعدم القدرة على تغيير موازيين القوى، وأن ما زرعناه فقط يمكن أن نحصده، وما زرعناه لا يعطينا كل ما نطالب به، وإنما أقل منه، وأن المجابهة إذا لم تكن سلمية جدًا وديبلوماسية من حيث الأساس، يمكن أن تقود إلى مواجهة عنيفة تستفيد منها إسرائيل، لأنها متفوقة عسكريًا، ولأنها ستؤدي كذلك إلى فوضى ومقاطعة وعقوبات أميركية وإسرائيلية على السلطة، وربما تصل إلى انهيارها، مع ما يعنيه ذلك من تداعيات وخيمة على الفلسطينيين والمنطقة.

يبدو منطق أبو مازن للوهلة الأولى وجيهاً. ولكن إذا تعمقنا به وربطناه فيما جرى ويمكن أن يجري في المنطقة، سنجد أن أقصى ما يمكن أن يتوصل إليه هو قيام دولة على جزء من الأرض المحتلة العام 1967 لا تملك من مقومات الدول شيئًا، أو بقاء الوضع الحالي السيئ، وفي الحالتين، فإن الثمن الذي يدفعه الفلسطينيون أكبر بكثير من ذاك الذي يمكن أن يدفعوه إذا ما اعتمدوا خيارات أخرى.

فإسرائيل ليست جاهزة لأي تسوية تحقق الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية. والعائق هنا ليس الحكومة الإسرائيلية الحالية فقط، وإنما أن الاتجاه المركزي الغالب جدًا في إسرائيل سيفرِض على أي حكومة أن تلتزم باللاءات الإسرائيلية، وما يعنيه ذلك من أن الدولة الفلسطينية لن ترى النور. والأدهى والأمرّ أن ما تقوم به إسرائيل من محاولات لاستكمال خلق أمر واقع استيطاني، من خلال إيصال عدد المستوطنين في الضفة إلى مليون خلال ثلاث سنوات، يجعل الاعترافات الدولية المتلاحقة بالدولة غير المترافقة مع قرارات دولية ملزمة وضغط جدي على إسرائيل مجرد تضليل عن طريق ترضيات للفلسطينيين لا تسمن ولا تغني من جوع.

إن المجابهة مع الاحتلال ليست اختيارية وإنما اضطرارية، ولا يمكن تجنبها أو تأخيرها، وإذا تخلّفت القيادة الفلسطينية؛ فإن الشعب سيخوض المجابهة من دون قيادة ولا تنظيم ولا جبهة وطنية ولا هدف سياسي ولا روافع متنوعة، وهذه أسوأ أنواع المجابهة، وستتحمل القيادة أولًا المسؤولية عنها، كما ستتحمل القوى الأخرى قسطها من المسؤولية.

لا يحدد وقت المجابهة وأشكالها طرف وحده، بل الطرفان وطبيعة وخصائص وظروف الصراع التي يفترض أن تكون محسوبة. كما أنها لا تقتصر على إستراتيجية ديبلوماسية واحدة، وإنما تشمل إستراتيجيات متعددة، حيث تستند إلى وحدة وطنية حقيقية، وإلى توفير مقومات الصمود واستمرار التواجد البشري على أرض فلسطين، وتعتمد على المقاومة بكل أشكالها، مع التركيز على المقاومة الشعبية والمقاطعة، إضافة إلى استنهاض جميع عناصر القوة، فلسطينيًا وعربيًا وإقليميًا ودوليًا، إذ يصبح التدويل جزءًا من الإستراتيجيات المعتمدة، ويكون الهدف هو تغيير ميزان القوى لتحقيق الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية. وحتى تنجح المجابهة في تحقيق أهدافها لا يمكن استمرار الوهم بأن الدولة على الأبواب، وأن الحل على مرمى حجر.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى